أزمة الفكر بين الصمت والجرأة

كتب رياض الفرطوسي
يُقال إن الإنسان يتحدد بقدرته على السؤال. فما دامت الأسئلة حيّة، يبقى العقل يقظاً، والمجتمع قادراً على تجديد نفسه. لكن حين يُغلق باب السؤال، يصبح كل شيء مكروراً، بلا روح، كما لو أننا نعيش حياة مؤجلة. وفي عالمنا العربي، يكاد السؤال يغيب، أو يظل معلقاً بين الخوف والجرأة.
لقد تحولت الثقافة إلى دائرة مغلقة، تدور حول ذاتها، تكرر ما قيل، وتعيد إنتاج ما استُهلك. النصوص التي كان يمكن أن تكون فضاءً للتأويل والانفتاح، أُغلقت في وجه المخيلة، وصارت الحقيقة محصورة في قراءة واحدة، جامدة، لا تحتمل النقاش. وكأننا صدّقنا أن الفكر جريمة، وأن الخيال خطيئة. هكذا يموت المعنى، ويذبل العقل، وينكمش الحاضر حتى يصبح نسخة باهتة من ماضٍ بعيد.
غير أن التاريخ يذكّرنا بأن الجرأة ممكنة. سقراط مات من أجل حقه في أن يسأل، والمتنبي عاش بطموحٍ يساوي الملوك، وابن عربي فتح قلبه لكل المعاني حين قال: «قلبي قابل لكل صورة، فهو مرعى لغزلان، ودير لرهبان، وكعبة للطائفين». كلماتهم كانت أشبه بنوافذ في جدار كثيف، نوافذ تقول لنا إن الإنسان أوسع من كل قيد، وإن المعنى لا يُختصر في صيغة واحدة.
لكن هذه الأصوات بقيت يتيمة، نجوم تتلألأ في ليل طويل. لم نملك الشجاعة لنحوّل جرأتهم إلى تقليد حي، ولا الأسس التي تجعل السؤال مؤسسةً لا استثناء. لذلك تبدو مفارقتنا اليوم مؤلمة: نحن ورثة تراث حافل بالتمرد، لكننا نعيش واقعاً خانعاً، لا يملك سوى اجترار الماضي والخوف من المستقبل.
أجسادنا ممزقة، ومؤسساتنا هشّة، وفضاءاتنا الثقافية ضيقة إلى حدّ الخنق. الكتاب ما زال يواجه الرقابة والحدود، والفكرة تُوزن بميزان الولاء لا بميزان قيمتها. في مثل هذا الواقع يصبح الصمت قانوناً، وتغدو الجرأة مغامرة شخصية معزولة. وكما قالت هانا أرندت: «الخطر الأكبر ليس الشر، بل تفاهة الشر». ونحن نعيش في تفاهة يومية تستبطن العجز وتكرّس الامتثال للسلطة، للرقابة، ولصوت الجماعة الذي يخنق صوت الفرد.
ومع ذلك، لا بد أن نحتفظ بشيء من الأمل. فالبذور التي تظل كامنة في التربة لا يعني أنها ماتت؛ يكفي أن تتوفر لها شمس الحرية وماء الجرأة كي تنبت من جديد. كل ما نحتاجه أن نعيد الاعتبار للسؤال، أن نثق في قيمة الشكّ بوصفه طريقاً للمعرفة، وفي الإيمان بوصفه أفقاً مفتوحاً لا جداراً مغلقاً. فالنهضة لا تولد من ترديد الشعارات، بل من شجاعة المواجهة، من استعدادنا لأن نفكر معاً، ونختلف معاً، دون خوف من السقوط.
ربما نبدو الآن عالقين في صمت طويل، لكن يكفي أن يتحول القلق الفردي إلى وعي جماعي حتى يبدأ التغيير. وما يستحق الحياة حقاً، كما قال درويش، هو أن نكون أحراراً: أن نختار، أن نحب، أن نحلم، وأن نجرؤ على السؤال. فحين يستعيد العقل شجاعته، تستعيد الأمة حقها في المستقبل.
ارسال التعليق