من سجون بني العباس إلى المعتقلات الصدامية (الجزء الثاني)

من سجون بني العباس إلى المعتقلات الصدامية (الجزء الثاني)

 

السجن.. الطريق إلى الخلود

 

حين رأى هارون اللا رشيد أن الإمام أصبح رمزا للمعارضة الصامتة.. قرر القضاء عليه .. فقال مستتر ..ا خلف النفاق الديني وهو يخاطب قبر النبي صلى الله عليه وآله يا ابن عمنا يا محمد ؟! .. أستأذنك في حبس موسى بن جعفر! ) وكأنه أراد أن يستر جريمته بغلاف ديني كاذب.. ويتكلم بقلة ادب وحجة القربى والنسب .

 

هكذا بدأ الإمام رحلة العذاب .. متنقلًا بين السجون، من البصرة إلى بغداد، ومن القيود إلى الأغلال، حتى استقر في سجن السندي بن شاهك، حيث تعرض لأبشع أنواع التعذيب، لكنه ظلّ صامدًا، يناجي ربه في الليالي المظلمة، ويدعو كما دعا يوسف الصديق في السجن: ﴿فاطرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾.

 

لكن الطغاة، وقد أعيتهم هيبته، قرروا التخلص منه نهائيًا، فدسّوا إليه السم، فخرّ الإمام ساجدًا لله، وكانت كلماته الأخيرة دعاءً تهتز له السموات ( اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب ..الخ.. ) حتى أسلم روحه الطاهرة في 25 رجب سنة 183هـ.

 

أما جسده الطاهر، فقد ألقاه العباسيون على جسر بغداد، مكشوفًا للناس، في مشهدٍ أرادوا منه إذلاله، لكنه أصبح شهادةً خالدةً على ظلمهم، وصوتا يلعنهم في كل زمان، حتى قال 

إني لأعجبُ كيف لا تبلى العظامُ

وبلاؤها في السجنِ وهي صوامُ!

 

السجون.. من هارون الرشيد إلى صدام البعثي

 

لكن السجون التي ظن الطغاة أنها مقبرةٌ للأحرار، تحولت إلى مهدٍ للثورات، من سجن السندي بن شاهك في بغداد العباسية، إلى سجون نقرة السلمان وأبي غريب الخ في حقبة العراق الصدامي.

 

هارون العباسي، الذي تفنن في تعذيب الإمام الكاظم عليه السلام ، مات مسموما على يد طبيبه غدرا، ولم يشفع له سلطانه، ولم يحمِه قصره، حتى صار قبره اليوم مرتعًا للغربان ... ثم جاء الطاغية صدام التكريتي البعثي العفلقي، الذي ملأ العراق بمقابر جماعية، وملأ السجون بعلماء الدين والمجاهدين، يظن أن زنازينه ستطوي ذكرهم، لكن نهايته كانت أذلّ من كل سجينٍ أودعه زنزانته، إذ وقف على حبل المشنقة يرتجف، ونال جزاءه كما ناله من قبله هارون العباسي، والمتوكل، ويزيد، وكل جبّارٍ اعتدى على آل محمد (عليهم السلام) وأوليائهم.

 

الإمام الكاظم.. منهجٌ خالد في المقاومة

 

لم يكن استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام نهاية القصة، بل كان ميلادًا لجهادٍ ممتد، فالحق لا يموت وإن مات رجاله، بل يُبعث من جديد في كل ثائر، في كل مقاوم، في كل صرخة تواجه الطغيان.

إن ذكراه ليست مجرد ماض يُستعاد، بل هي رسالةٌ للمقاومة، درسٌ للأحرار، ومنهجٌ لكل من يحمل لواء العدل في وجه الجور .. فكما وقف الإمام الكاظم عليه السلام في وجه هارون، فإنّ صوته لا يزال يدوي في كل زمان، يعلّم الأجيال أن السجون لا تكسر الأحرار، والقيود لا تسجن العقيدة، وأن للحق رجالا لا يخشون الموت، بل يحيون به إلى الأبد.

 

ارسال التعليق