الالق السومري جعله كاتبا مميزا

الالق السومري جعله كاتبا مميزا

" إن لغة المسرح هي مساحات نعبر بها عن موقفنا من الواقع  ، ونكتب بها فلسفتنا عن الحياة " هكذا قيل في المسرح ، ومن هذا المفهوم  ينطلق المبدع المسرحي  ، لتتشظى ذواته الابداعية ، عابرة افق التوقعات ، لترسم صورة العالم بوعي متجذر وكامن تعيد المألوف والمتداول عبر صور مسرحية تكتشف من خلالها سرية الاشياء وجواهر الروح ، وعبق الحياة ، وجماليات الكون . والرؤى التي تبحث في الوجود ، من ذلك كله خرج المبدعون ، ومن بينهم عمار نعمة جابر الذي فاز مؤخرا بجائزة دبي الثقافية في الحقل المسرحي ، حيث حصل على المرتبة الثانية على المستوى العربي ، وقد احتفى به اتحاد وادباء ذي قار وسط حشد جماهيري كبير وتغطية اعلامية مميزة ، على قاعة المركز الثقافي ، يوم الخميس الموافق 22 / 9 /2011 ،

لعل المتتبع لحياة عمار نعمة جابر المسرحية يجدها مليئة بالانجازات  يوم جاء متفرج بسيط ليشاهد عرض ( قضية ظل الحمار ) عام 1992 وهو ليس له علاقة بالمسرح ، وانتهى به الحال بأن يكون واحدا من ابرز شخصيات الجماعة التي قدمتهم الى الحركة المسرحية العراقية ، كممثل وكاتب مسرحي ، ومديرا ففي مجال التمثيل يمكن تشخيص اربعة خصائص ميزته عن اقرانه ، اولا : كان شديد الحرص للحضور في مواعيد التمارين ، حيث يتبنى روح الدعابة والنكتة ويحاول ان ينفس عن كرباتهم الحياتية ، ويخلق اجواء مناسبة للتمرين رغم معاناته التي يعرفها المقربون منه ، ثانيا : امتاز بالاخلاق المسرحية وحسن الاداب ، وما احوجنا نحن المسرحين في هذا الوقت الى تلك الاخلاق ، والتي للاسف الشديد غادرت الكثير منا وبدأنا نبحث عن الاسفاف والمال وتركنا رسالة المسرح المقدسة ، وخطابه الانساني ، ثالثا : امتاز بتطبيقه الدقيق لملاحظات الرؤية الاخراجية ، وكان يذكر المخرج وجميع زملاءه بالملاحظات السابقة ، ويؤكد على اهميتها وضرورة العمل بها لانها تسهم في انضاج العمل . رابعا : قدرته في خلق كاركتر ( الشخصية ) بجميع ابعادها ولوازمها ونطقها وحركتها بحيث يجعل المخرج في خيارات متعددة ، وبهذا حصل على العديد من الجوائز ، كان أهمها جائزة أفضل ممثل في مهرجان المسرح الجامعي الذي اقيم في جامعة القادسية عن مسرحية ( الشاعر والمخترع والكولونيل ) للكاتب الفرنسي بيتر اوستينوف .

أما المجال الثاني وهو ( الادارة المسرحية ) فقد استطاع ان يجترح له منهجا والية جديدة في تطبيقات الادارة المسرحية باشراف الناقد والمخرج المسرحي ياسر البراك ، وعند مشاهدة سجلات الادارة المسرحية في الاعمال السابقة نجد أن ثمة تنظيما وتخطيطا وصفيا للتمارين المسرحية ، كأنها ( لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ) كما يقال ، وهو بذلك يمكن أن يكتب كتابا متخصصا ف الادارة المسرحية وسيكون عونا لكل الهواة في المسرح فضلا عن المسرحين المحترفين لانه سيضيف لهم الشيء الكثير - كما اتوقع -  .

أما المجال الثالث والذي نحن بصدده وهو ( التأليف المسرحي ) فقد صدرت له مجموعتان : الاولى (مقامات نورانية ) والثانية ( نادي .. للضحك ) ، ومن خلال متابعتي لنصوص عمار نعمة جابر يمكن ان اضع بعض التصورات النقدية لمجمل كتاباته ، فهو يكتب في اتجاهين اسميتهما .. النص العقائدي والاخر النص العام ، ففي الاتجاه الاول يكتب تصوراته الفلسفية لمساحات المطلق وتداعيات الوجود ، ، وممكن الوجود ، وكيف يتعاطى الثاني مع الاول .. وكيف ترسم ملامح الحركة في هذا العالم .. وكذلك السياقات التواصلية على مستوى الروح والجسد ووسائل التواصل اللاهوتية مستفيدا من حكايات ووقائع وتداعيات تاريخية كانت أو آنية ، بحيث يمضهرها متماشية مع قراءته الخاصة لها .  وهذه المساحات المعبأة بالعديد من الالغام ، الا ان قدرته في اكتشاف اماكنها وكيفية معالجته لها جعلها توظف بشكل مميز ، وقد استطاع أن يترك آثارا مميزة في هذا المجال .

أما الاتجاه الاخر فهو ربما يتماشى مع المألوف الا انه يحاول أن يضفي رؤيته الخاصة في صناعة المشهد ، ويمكن لنا أن نحدد بعض ملامح صناعة عمار نعمة جابر للنص المسرحي ، وحسب العناصر النصية المتعارفة ، وكيف ينظر الى تلك العناصر ، محاولا اجتراح اسلوبا مغايرا عن الاساليب الموجودة في المشهد المسرحي :

اولا / الحدث .. لا يتعامل مع الحدث  بواقعية فهو يستل الحكاية سواء من التاريخ او من الواقع ، وربما يأخذ خطوط عامة لفكرة ، ويحاول ان يجردها من واقعيتها  ، فربما في المرة الاولى تجدها مألوفة وقريبة الى الواقع ، الا انك ستكتشف فيما بعد أنها احداث مفترضة خارجة من مخيال الكاتب وان كانت ذات ملامح واقعية ، كما هو الحال في احداث مقامات نورانية أو قبور بلا شواهد او ليلة جرح الامير ، وحتى نصه المعروف " قاع "  .

ثانيا / الحوار .. فهو يقترب الى الشاعرية وخصوصا في النصوص العقائدية ، ولكن بمجرد الامعان فيها ستجدها أقرب الى المناجات الموجودة في كتب الادعية كضياء الصالحين او مفاتيح الجنان او غيرها . وهي بذلك لا تميل الى التحاور المباشر مع الاخر ، بل نشعر انها منلوجات داخلية الا في حالات الضرورة يكون هناك اتصال مباشر . إن الحالة الاولى فهو اتصال ( ضمني ) كما اسميه ، وهو غير مباشر .

ثالثا / الصراع .. يركز ي على الصراع الداخلي ، ويغادر بشكل ملحوظ الصراعين ( العمودي ، الافقي ) المتداولين . فهو يعالج الازمات الذاتية لشخصياته ، وهو ينطلق عبر ذلك من فلسفته التي يؤمن بها والتي مفادها ( ميدانكم الاول انفسكم ) لذلك تجد شخصياته اغلبها تبحث عن منقذ أو مخلص ، كما أسلفنا فهي شخصيات تؤمن بالقدر ولكنها في ذات الوقت تحاول ان تقرأه وفق صياغات خاصة .. ربما في بعض الاحيان ترضخ له وهو امرا معقولا ، وربما في بعض الأحايين  الأخرى تحاول أن تنفلت منه وفق معطيات تقترب الى الحراك الذي يفضي الى نتيجة وإن كانت سوداوية الا انها تفترق بالحركة وعدم الاستسلام . فهي واقفة ما بين الامرين ، وهي ما تؤشر بميله الى فلسفته الوسطية . فهو بذلك يعالج شخصياته وفق هذا المنهج المعرفي الذي اختطه في صياغة نصوصه المسرحية ، وهذا ينسحب ايضا على بقية العناصر الأخرى .

رابعا / المكان .. فهو يتبع الحدث متخيل وافتراضي ، فمقبرة جابر ليس لها وجود عياني لانها ببساطة من غير قبور ، وليست ثمة شواخص فيها ، ومسجد ابو سكينة ما هو الا في المخيال ، وقاع السفينة ، لا تعرف وجودها واي بحر يحملها ، بمعنى أنها أمكنة معنوية ، وهي حاضتة لبث جملة من الافكار لتعزيز الخطاب المرسل .

خامسا / الزمن .. فهو حالى وصفية لا تنتمي الى الزمن اليومي المتداول أو ما يسميه الناقد والمخرج المسرحي ياسر البراك بالزمن البايلوجي ، ويستفاد من هذا الزمن لتحقيق امرين : الاول لربط احداث المشاهد وانتقالات الشخصيات . والثاني تقيد زمن الشخصيات ومعها كل التفاصيل المتعلقة بالبناء المشهدي ، وهو - اي الزمن - ربما يختزل في جملة كما هو واضح في نص ( قاع ) حيث يصف الكاتب زمنه  بهذه الجملة المتكررة ( صوت هدير بحر ) .

كما تمتاز نصوص عمار نعمة جابر بكثرة الملاحظات وهو -  كما نرى - ينظر بعين المخرج والممثل والكاتب ، في لحظة بناء المشهد ، وهو بذلك يسهل كثيرا على المسرحيين الذين يقومون باخراج نصوصه .. لذلك نجد لها مقبولية واضحة ، وهذا ما يفسر نجاحاته ، حيث عرضت اغلب نصوصه في بلدان عربية كثيرة منها ( الكويت واليمن والاردن والسعودية وسلطنة عمان ومصر ) وحصل على جوائز في اغلب تلك البلدان ، كما عرضت له العديد من المسرحيات في داخل العراق من قبل زملاءه في جماعة الناصرية للتمثيل وقد حققت حضورا متميزا ، ومن هذا المنجز الذي دام قرابة الثمانية عشر عاما ، يحق لنا أن نحتفي بمبدعنا عمار نعمة جابر ، ولكننا في ذات الوقت نأسف لموقف الجهات الحكومية والاهلية المهتمة بالشأن المسرحي ، الذين لم نجد لهم صوتا أو كلمة للثناء على هذا الانجاز الذي تحقق للمسرح والثقافة العراقية ، اذن هي دعوة لهؤلاء لان ينفضوا عنهم الغبار ويتحركوا باتجاه احتضان هذه الطاقات الابداعية المليئة بالالق السومري ، حتى تأخذ مساحتها الحقيقية في التواصل والابداع .

 

ارسال التعليق