الغائب والمغيب في المناهج الدراسية
مع بداية كل عامٍ دراسيٍ جديد، يثار عدد من التساؤلات المشروعة حول المناهج الدراسية، وضرورة تغيير ما يمكن تغييره من تلك المناهج، لكي تواكب التفجير المعرفي الذي يعتبر من أهم سمات هذا العصر. وبما ان المنهج الدراسي يعد أحد أهم الأركان الرئيسة التي تتشكل منها المنظومة التعليمية، لذا تخضع المناهج الدراسية باستمرار لعمليات نقد ومراجعة، نتيجة ً للتغيير الحاصل في حاجات المنهج، وحاجة المتعلمين، والتطور في طبيعة المعرفة ونوعها.
ان أية محاولة لتطوير المناهج الدراسية لا بد ان تسبقها دراسة علمية للواقع بكل إيجابياته وسلبياته، والمعوقات التي تحول دون الإرتقاء به الى مستوى الطموح. وعلى الرغم من مرور هذه المدة التي أعقبت عملية التغيير إلا ان ما طرأ على المناهج الدراسية، لا سيما الانسانية منها، من تغيير وتطوير لم يكن بذلك الحجم الذي يوازي عملية التحول التي حصلت في البلاد، ولا مواكبة التطورات المعرفية الجارية الآن في العالم.
والملاحظ ان المادة المُختلف عليها من بين المواد الأنسانية، والتي كانت ولا تزال محل جدل، هي مادة التاريخ، على اعتبار ان هذه المادة كانت المُستهدف الأول من قبل النظام الدكتاتوري السابق، لعلمه الأكيد بأهمية التاريخ وما يشكله من تأثير كبير في توجيه الشعوب سلبا ً كان أم إيجابا ً. ولعل أهم مايمكن تشخيصه في هذا الصدد، هو هذا التجاهل والتحجيم الواضح لتاريخ العراق في هذه المناهج، وعدم ابراز دوره الحضاري، باعتباره المهد الأول للحضارات الأنسانية، فعند استعراض عناوين هذه المادة، بدءاً من مرحلة الخامس الأبتدائي الى السادس الأدبي نلاحظ هذه العناوين تتراوح تسمياتها بين (التاريخ العربي الأسلامي، والتاريخ الحديث والمعاصر للوطن العربي، وتاريخ الحضارات القديمة، وتاريخ الحضارة العربية الأسلامية، والتاريخ الأوروبي الحديث) ولم نقرأ أي عنوان من بين هذه العناوين يحمل تاريخ العراق بصورة مستقلة، كتاريخ العراق القديم أو الحديث والمعاصر، وظل تاريخ العراق طوال تلك العقود يـُلحق ضمن هذه المواد، وكأنه أقليم هامشي تابع لهذه الدولة أو تلك الأمبراطورية. وهنا السؤال الذي يطرح باستمرار والحاح، ألا يستحق العراق بكل ثقله الحضاري والتاريخي ان يكون له تاريخ مستقل يُدرس ضمن هذه المواد؟ ثم لماذا هذا الغلو في تغليب وتكريس النزعة القومية في هذه المناهج، وعلى حساب النزعة الوطنية، التي كان العراق ولايزال بأمس الحاجة إليها، بأعتباره بلدا متعدد الأعراق والأطياف ؟. وهذه ليست دعوة للانسلاخ عن امتداداتنا العربية والاسلامية، أنما هو الفات النظر لسياسة تغييب روح المواطنة في هذه المواد، وعدم تناول الموروث الحضاري لبلاد مابين النهرين بالشكل الذي ينسجم مع الإستحقاق التاريخي الذي عُرف به.
الأمر الآخر المثير في مادة التاريخ، هو هذا الاسهاب في ذكر المعارك والحروب، وأحاديث وروايات طويلة عن الانتصارات لأبطال لم يعرفوا الهزيمة في حياتهم. ان طرح الأحداث بهذه الطريقة غير الموضوعية سوف يترك في ذهن الطالب بأن هولاء القوم قد خُـلقوا للحرب والقتل والدمار. ولا ننسى أيضا ً حالة التغييب والتجاهل لحوادث وحقب تاريخية مهمة، وكذلك لشخصيات سياسية وأدبية عُرفت بمواقفها الوطنية، في حين يتم إظهار أحداث تاريخية ثانوية، وشخصيات هامشية وبطريقة ديماغوجية وغير موضوعية، لذا فمن غير المعقول أن يستمر هذا الطرح التاريخي البعيد عن أساليب البحث العلمي والموضوعي. كما لاتزال كتب التاريخ ولمختلف المراحل الدراسية عبارة عن تاريخ ملوك وخلفاء وسلاطين، ولا تجد في تلك المناهج أي دور لحركة الشعوب والمجتمعات، أو للتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي كانت تمر بها تلك الشعوب و المجتمعات، اما عندما يذكر ذلك فأن الأمر يتعلق بما يرتبط بتاريخ ذلك الخليفة أو هذا الملك.
ان القصد من وراء تشخيص هذه الملاحظات وغيرها هو لتذكير المشرفين على هذه المناهج، وكذلك المعنيين بوضع السياسة التعليمية في البلاد بضرورة إعادة النظر بتلك المناهج، مع الأخذ بنظر الاعتبار التحولات التي حصلت على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي. ان تغيير وتطوير المناهج الدراسية أصبح حاجة مُلحة، وموضوعاً يجب ان يتقدم في الأهمية على غيره من المواضيع والملفات، لأننا لا نبالغ إذا قلنا ان معظم المشكلات التي يعانيها العراق ترتبط موضوعاتها وتتشابك بشكل أو بآخر مع موضوع التعليم وطرقه وأساليبه وأهدافه، فهناك الكثير من المواضيع والمواد الغائبة والمُغيبة عن تلك المناهج، لا سيما الانسانية منها، لذا نحن بحاجة ماسة الى مراجعة شاملة وباستمرار لمناهجنا الدراسية، ولعموم منظومة التربية والتعليم ، وان توضع الآليات والخطط الواضحة للنهوض مجدداً بهذا المرفق الحيوي، بدءا ً من رياض الأطفال وحتى الدراسات العليا، ولكن قبل هذا وذاك يجب ان تـُوضع المناهج الدراسية بعيدا ً عن جميع الولاءات والميول والأهواء، على اعتبار ان المسؤولية في هذا الشأن، هي مسؤولية وطنية تضامنية.
ارسال التعليق