القلوب الغليظة لا تصنع ثورة
رياض الفرطوسي ||
الثورة ليست مجرد حالة من عصيان أو انتفاض، بل هي لحظة فارقة تعيد صياغة التاريخ، كما تصفها الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت في كتابها “الثورة”: “إن الثورة تعني أن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تُروَ سابقاً ولم تُعرف قط، هي على وشك الولادة “.
الدور الأساسي للمخططات التدميرية في المنطقة كان استهداف الدولة كمفهوم، لا السلطة فحسب، فالدولة هي مؤسسة خدمات محايدة وثابتة، بصرف النظر عن النظام السياسي الذي يحكمها.
السلطة نظام متغير يمكن تغييره، لكن استهداف الدولة ككيان يحوّلها إلى دولة فاشلة، تابعة، ورهينة للأطراف المتحكمة. هذا ما حدث في سوريا وهو مخطط تكرر في العراق، حيث يتشارك المخططون ذات الهدف رغم تنوع المنفذين .
العرب، بشكل عام، يتصورون أن الغرب يتعامل مع كل دولة عربية على حدة، لكنهم لا يدركون أن النظرة الغربية والصهيونية ترى العرب ككيان واحد مترابط .
فرانز فانون، رغم عمره القصير، كان علامة بارزة في الفكر، وطرح فكرة ملهمة مفادها أن الضحية غالباً ما تبحث عن ضحية أضعف منها للتنفيس عن عارها الداخلي، بدلاً من مواجهة الجاني القوي.
فانون أشار إلى جبن السلطة حين تتسيد، وهو ما يراه في سلوك الحيوانات أيضاً، مثل القرد الكبير الذي ينكّل بقرد أصغر لاستعراض قوته عندما يُواجه تحدياً من قرد منافس .” في علم النفس، يُقال إن الحشود تسلب إرادة الفرد، إلا المثقف الواعي الذي يدرك دوره في نشر الوعي” .
وفي المنعطفات التاريخية، يكون على عاتق المثقف مسؤولية كبرى لتوجيه الجماهير وإحياء الوعي المجتمعي .
بين صفوف العامة تسود فكرة خاطئة مفادها أن “الاحتكام إلى رأي العامة” هو السبيل الأمثل للتغيير، لكن التاريخ يثبت عكس ذلك.
فقد كانت العامة، في كثير من الأحيان، أداة للقضاء على الحكماء والفلاسفة والعظماء، كما حدث مع سقراط. بدلاً من الركون إلى رأي العامة، يجب الاحتكام إلى المنطق والواقع والتجربة.
المفكر إدوارد سعيد رفض الخضوع للأوصياء، مهما كان الثمن، وركّز على دور المثقف الحقيقي كمنتج للمعرفة ومصدر للرؤية المضادة، لا كفنان يُسلي الناس .
المثقف، بحسب سعيد، ليس مُرضياً للجموع، بل معكّراً للهدوء، وعنصر تحريض من أجل التغيير. للأسف، غالباً ما نخلط بين المثقف والمتعلم، ونمنح لقب المثقف لمن يقوم بدور الكاتب الوصفي أو الإداري فقط .
الثورة، كما يوضح التاريخ، ليست مجرد انتفاضة أو احتجاج، بل هي ولادة جديدة ومشروع لإعادة بناء المجتمع. التغيير الحقيقي يتطلب قلوباً نابضة بالحياة، مليئة بالإحساس بالمسؤولية، لا قلوباً غليظة تفتقد التعاطف والبصيرة.
منذ 2003 ولحد الان لم يحصل في العراق تغيير فكري وثورة فكرية ، بل حالة من الفوضى غير المؤطرة، حيث تحول البلد إلى ساحة للصراعات والانقسامات، دون أي رؤية واضحة أو مشروع جامع .
هذه الفوضى ليست مقتصرة على العراق، بل تتكرر في دول مثل ليبيا وأفغانستان، التي عانت من التدخلات الدولية دون بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية.
المفكر فرانز فانون حذر من أن الشعوب الخارجة من قهر طويل، إذا لم تبدأ فوراً ببناء مؤسسات ديمقراطية، فإنها ستنزلق نحو الفاشية وتعيد إنتاج أنظمة قمع جديدة.
تحذيراته تتجسد اليوم في العراق، حيث تسود الانقسامات والصراعات الأيديولوجية، في ظل غياب أي رؤية مستقبلية من قبل المثقفين أو القادة السياسيين.
فانون كان شاهداً على كيف استغل القادة الشعبويون في أوروبا حالة الإحباط والغضب لصعود النازية والفاشية، مقدّمين أنفسهم كمنقذين، لكنهم قادوا شعوبهم إلى المزيد من الدمار. دور المثقف الحقيقي هو الاستباق والتحذير، تماماً “كطائر البطريق الذي ينذر بقدوم العاصفة قبل وقوعها “.
ولكن في مجتمعات أصابها الصمم، يصبح المثقف جزءاً من الحشود، مسلوب الإرادة، يندفع وراء العواطف دون رؤية واقعية للمستقبل . في العالم العربي، يظهر الخلل بوضوح في غياب التفكير النقدي والتخطيط طويل الأمد، ما يؤدي إلى استمرار الأزمات وإعادة إنتاج الفشل. الثورة الحقيقية تتطلب مجتمعًا حيًا ونفوساً مفعمة بالأمل، ومشروعًا متكاملًا لإصلاح القيم وبناء مؤسسات ديمقراطية تضع مصالح الشعب فوق كل اعتبار .
العراق اليوم بحاجة إلى مقاومة واعية لا تكتفي بالاحتجاج، بل تسعى إلى بناء رؤية وطنية شاملة.
التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، عبر إصلاح القيم وتوحيد الجهود لبناء مستقبل جديد، قصة تستحق أن تُروى .
ارسال التعليق