هل الديمقراطية شكلا لنظام الحكم ؟
يعد التغيير قانون الحياة,التغيير الذي يستهدف بناء مجتمع الرخاء والرفاهية وترسيخ العدالة الاجتماعية في جوانب الحياة المختلفة , والجانب السياسي واحد من الجوانب المهمة التي تشغل الحياة المعاصرة , وإذا كان تاريخ العراق السياسي بدءا من ولادة الدولة العراقية 1921 قد اقترن بالمشاريع الخارجية ( نظام سياسي, دستور , حكومة) وبغطاء ديمقراطي ليبرالي فان البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية لم تكن متماهية ومهيئة لتقبل شروط النظام السياسي الديمقراطي ومن ثم إنضاجه , لذلك من الممكن القول إن التغيير السياسي عام 1921 أنتج دولة ونظام سياسي مشوه وديمقراطية منحرفة عن صيغها المعروفة في النظم السياسية الديمقراطية مثل الانتخابات النزيهة والشفافية وتداول السلطة سلميا والتمثيل الحقيقي في مجلس النواب ودوره في مراقبة الحكومة ومسائلتها إذا اخطأت أو انحرفت عن برنامجها السياسي والحكومي بل يصل الأمر إلى حد المطالبة بسحب الثقة منها وإسقاطها ,غير إن هذا التغيير (1921) الذي يعد نقطة فاصلة في تاريخ العراق السياسي الحديث كان مهما لأنه عرف العراقيين بالحداثة السياسية المتمثلة بتشكيل الدولة الوطنية التي تبنت الفكر الديمقراطي الليبرالي والتي تحاول بالسعي والجهد شيوع هذا الفكر , لكنها كانت تصطدم بالبنى المجتمعية التقليدية العراقية , وبالسلطة السياسية العراقية , وما مسلسل الانقلابات العسكرية إلا متغير في تأخير وإبطاء عملية التحول الديمقراطي , وبكلمة موجزة نستطيع القول إن الدولة الوطنية عبر رموزها الأوائل قد عملت على بناء مؤسسات دولة لكنها لم تستطع بناء مجتمع ديمقراطي , ثم تطور الأمر إلى ( لا دولة ولا مجتمع) قبل الإطاحة بالنظام السياسي السابق (1968-2003) بفعل السياسات المرتبكة والأخطاء الإستراتيجية الكبرى التي أضرت بالوطن العراقي , وهدرت الطاقات البشرية والاقتصادية مما انعكس بصورة مباشرة على القيم الاجتماعية والثقافية فأنتج فصلا وقطعا مباشرا بين الدولة والمجتمع بل زاد من ترسيخ فكرة عدم الوعي بمفهوم الدولة لدى المواطن العراقي ودوره في المجتمع .
إذن..كان المجتمع العراقي بحاجة إلى تغيير لكن هذه المرة نحتاج إلى تغيير ايجابي يخدم مصالح وكرامة الناس وحرياتها ويرفع الاحتكار السياسي إلى مستوى التعددية السياسية وبناء عراق على أسس الحداثة السياسية ,فالديمقراطية صيرورة( اجتماعية – ثقافية) , فقبل أن تكون سياسية أو قرار سياسي أو مادة دستورية , فهي محتوى وجوهر اجتماعي أنساني أي أنها تتسم بتنظيم العلاقات بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين والسلطة السياسية , وعلى أسس إنسانية قوامها ( الحرية والمساواة) ليسهم كل مواطن بدور يصب بمصلحة الجميع ,فهي – أي الديمقراطية – طريقة حياة مثلما هي خليط من المؤسسات السياسية والدستورية فلا يكفي أن نتعرف فقط على الفكر الديمقراطي لنصبح ديمقراطيون بل أن يعدو الفكر الديمقراطي وسيلة وغاية في الوقت ذاته ولا يكفي فقط أن يكون شكل المؤسسات الدستورية ديمقراطيا , كي تتحقق الديمقراطية , إنما يفترض أن يكون الشعب والقوى السياسية المتفاعلة والمشاركة في إطار المؤسسات السياسية مؤمنة بالديمقراطية ومبادئها ( فكر وممارسة)وان تكون على مستوى حضاري يمكنها من ممارستها ممارسة صحيحة نسبيا .فالديمقراطية قبل أن تكون شكلا لنظام حكم هي تجسيد لقيم وممارسات إنسانية حضارية وطريقة في الحياة وان القواعد الدستورية هي مجرد بنية فوقية لا معنى لها إلا بقدر ما تتماسك وتؤمن الجماعة بها .إن الدول التي تمر بعملية التحول الديمقراطي تحتاج إلى عدد من الشروط التي يفترض حضورها وتعزيزها باستمرار لنجاح هذه العملية وصولا إلى عملية التحول الديمقراطي , ومنها الشرط الاقتصادي الذي يتمثل في تحقيق الرخاء الاقتصادي والتنمية البشرية في مختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وارتفاع في دخل الفرد الذي يعين تلبية احتياجاته من التعليم والتربية والمعيشة وتهيئة سبل الثقافة والوعي , فان ارتباط الازدهار الاقتصادي بالديمقراطية أتاح تحقيق ديمقراطية اجتماعية كان من نتائجها توسيع صفوف الطبقة الوسطى التي تعد خميرة الديمقراطية وبروز نخب مدنية غير النخب العسكرية وتعميم الثقافة المدنية والديمقراطية وإنتاج دولة الضمان والعدالة الاجتماعية , وان الشرط الاجتماعي يتمثل بتوافر الوحدة الوطنية , فالتجانس والاندماج الاجتماعي متغير جوهري يسهم في دمقرطة المجتمع , كون ذلك يجسد الاعتراف بالأخر وعدم إقصائه وإلغائه مهما كانت متبنياته الفكرية والقومية والدينية والمذهبية , لان الانقسامات الاثتية والدينية خطر يهدد التحول الديمقراطي , وان تحقيق الوحدة الوطنية لا يتم إلا بحضور وتفاعل الوعي والمسؤولية الوطنية والوعي بمفهوم الدولة وبقيم المواطنة من خلال تفاعل الدولة والمجتمع معا , لا بهيمنة الدولة على المجتمع , كما إن الشرط الثقافي يتمثل في الثقافة العقلانية , بمعنى إيجاد الصيغ والممارسات التي تستند على فكرة ( إرادة الشعب) على المستوى السياسي وفتح المجال أمام التعددية السياسية منعا لاحتكار السلطة وتجسيد حقيقة الاختلاف عبر التنافس السياسي في العملية السياسية الديمقراطية ,بمعنى إيجاد المناخ الملائم والمناسب لحضور وتعايش المختلف مع الآخر في الرأي والعقيدة وهذا لا يتم إلا بتوافر الوعي والثقافة السياسية الديمقراطية التي تشكل الصيرورة التاريخية لاستنبات الديمقراطية.
ارسال التعليق