أسرار الحضرة العباسية المطهرة

أسرار الحضرة العباسية المطهرة
نقلا عن جريدة الصباح منذ سقوط نظام صدام الدكتاتوري والكثير من الاصدقاء والمعارف والقراء يذكّرونني بالموضوع الذي نشرته في مجلة”الف باء “ في آب 1998 بعنوان”أسرار الحضرة العباسية المطهرة “ ويطلبون منّي إعادة كتابته بحريّة لاعتقادهم بأنني أخفيت الكثير من الحقائق والاسرار خوفا من الرقابة وضيق مساحة الحرية.. وآخر ما وصلني بهذا الشأن ما حمله لي مراسلنا في البصرة وهو طلب عدد من القرّاء في البصرة إعادة نشر الموضوع بمناسبة ذكرى استشهاد الامام الحسين”ع “ في شهر محرم الحرام.. لاسيما وأن الكثير من القراء لم يحصلوا على عدد”ألف باء “ الذي نشر فيه هذا الموضوع، لأن هذا العدد نفد حتى من أرشيف المجلة كما اخبرني السيد عبودي ”ابو احمد “ مدير مكتب رئيس التحرير و قال ان المسؤولين في ديوان الرئاسة والوزراء كانوا يطلبون نسخاً من هذا العدد حتى بعد أشهر من نشره.. تبدو لي اعادة نشر هذا الموضوع عملية قد لا تكون مسوّغة في هذا الوقت خاصة أنني وبعد أكثر من سنة أعدت نشر الموضوع في مجلة السياحة بطلب من المسؤولين فيها، غير أن طلب القراء في البصرة ولأهمية شهر محرم وجدت أن من المناسب الاجابة على الكثير من الاسئلة التي أثيرت حول الموضوع ، خاصة تلك التي لم أستطع الاجابة عنها وستكون إجابتي من خلال سرد قصة الموضوع كاملة.. الموضوع الذي أعتز به كوني أول صحفي ينزل الى قبر العباس عليه السلام ويكتب عنه. البداية.. كانت سؤالا في مثل هذه الايام من شهر محرم وفي جلسة عائلية، سألتني امرأة عن مدى صحة جريان نهر العلقمي تحت ضريح العباس”ع “ وتطوّر الحديث عن اعتقاد البعض أن جثة العباس مازالت طافية على مياه النهر ولم تتحرك منذ استشهاده حتى الآن.. بدا لي المشهد في غاية السريالية، لكن الناس صدقته وقد سمعته أكثر من مرة، لاسيما بعد أن نشرت بعض الصحف الاسبوعية التي يشرف عليها عدي ابن صدام عدة أخبار عن استخراج مياه من قبر العباس”ع “ للاستشفاء وأنها تباع بأسعار عالية جداً. المرأة - وهي زوجة صديقي - اقترحت عليّ أن أكتب موضوعاً يجيب عن الكثير من الاسئلة بعد زيارة الضريح ، فواجب الصحافة هو كشف الحقائق وتفنيد الاشاعات.. وسيكون أجري عند الله كبيراً كما قالت. في البداية استصعبت كتابة موضوع عن القبر الاصلي للعباس”ع “ وكيف يمكنني أن أنزل الى”العلقمي “ لكن استفزني ما سمعته من أحد الاشخاص بعد أيام حيث قال: إن أحد أقاربه نزل الى القبر الاصلي بواسطة أحد رجال الدين ، وشاهد النهر مازال يجري تحت الضريح . بل وأكثر من ذلك أنه شاهد ذراع العباس”ع “ مازالت طريّة تنزف دماً على ضفة النهر؟ بالرغم من تفسيري لهذه المعتقدات والاساطير في زمن الجوع والاضطهاد إلا أنني جربت أن أحاول فعلاً في اليوم التالي دخلت على الاستاذ أمير الحلو رئيس تحرير”ألف باء “ وشرحت له الأمر مع طلب بأن يزوّدني بكتاب الى محافظ كربلاء للسماح لي بالنزول الى القبر الاصلي ضحك أمير الحلو وقال لي: - الموضوع حساس وربما يخلق لنا مشكلة خاصة وأنني من النجف وأنت من الجنوب وهذا ما يسهل على الحكومة اتهامنا بالطائفية.. شرحت له الاسباب التي دفعتني الى تبنّي الموضوع وليس بينها أي سبب طائفي أو حتى ديني ، فالخطورة أننا نتداول الاشاعات والاساطير في زمن الاعلام والفضائيات.. رئيس التحرير كان متفهماً جداً. وأضاف لي معلومة، بأنّ الموجود هو مياه جوفية ، وأنه عندما كان مديراً عاماً للسياحة حاولوا سحب المياه من تحت القبر الشريف ، وتم التعاقد مع شركة هندية لهذا الامر، وكان رأي المهندسين أن سحب المياه من تحت القبر سوف يؤدي الى انهيار الضريح فاستعملت الشركة الهندية تقنية حقن الارض بالاسمنت قبل سحب المياه، ومع ذلك لم تنجح الطريقة. بعد ذلك وافق رئيس التحرير على تزويدي بكتاب تسهيل مهمة الى المحافظة لا يتضمّن أية تفاصيل بشأن السماح لي بالنزول الى القبر الشريف. وقال لي: - انت وشطارتك.. فكر كيف تقنع محافظ كربلاء بالنزول الى القبر.. لكن تجنّب الحديث عن الكرامات كي لا تخلق مشكلة لأنهم حساسون من هذا الامر.. في كربلاء.. مخاوف وكرامات من هيبة القبة الذهبية والمئذنتين الشامختين وسطوة الأواوين والأروقة حيث حفيف أجنحة الرحمة والخشوع والاجلال وشواهد التاريخ المعلنة والمخفية الى ذرا التربة المعجونة بالدم الطاهر الذي عزّز روح الامة الاسلامية بأقوى”لا “ تحفظها ذاكرة البشرية وصارت مناراً لكل الثوار على وجه الارض.. كانت رحلة شاقة جداً، وأصعب ما فيها أنها رحلة تبحث عن يقينها.. الخطوة الاولى كانت الى السيد مهدي الغرابي سادن الروضة العباسية في حينها، استقبلنا الرجل بشيء من التحفّظ رغم ترحيبه بنا. وعندما طلبنا منه النزول الى سرداب القبر الشريف، قال: هذا غير ممكن بتاتاً ولا يسمح لأي شخص بالدخول إلاّ من خلال ديوان الرئاسة.. لم أتركه، بل أخذت أشرح له الامور وأقنعه بأنّ ا ما نقوم به هو خدمة للاسلام . فبدأ يتعاطى معنا وأخبرنا أن البعض يتاجر في هذه المياه ”مياه النهر المزعوم“ حيث تباع قنينة الماء الى الزوار الايرانيين ما بين 100 - 200 دولار، وأن إحدى الصحف وجّهت التهمة الى الغرابي بأنه يتاجر بالمياه التي يقال أنها تغسل جثمان العباس”ع “.. هنا أمسكت شيئاً ما وقلت للغرابي: نحن نثق بك، وجئنا لتدافع عن نفسك ضد”افتراءات “ الصحف الاسبوعية عليك.. فعرض علينا أن يشرح لنا كل تفاصيل وجغرافية السرداب والقبر. قلت له: أنا لا أكتب عن السماع وإنما أعتمد على عيني.. بعد أكثر من ساعة على الحديث مع الغرابي، حدث تحوّل، وقال: - لا استطيع إدخالكم لأن المفتاح عند المحافظ. خذوا موافقته وأنا لا مانع لديّ.. قلت له: المحافظ هو صابر الدوري. قال: وما به؟ قلت: كيف أتكلم معه بالموضوع وهو مدير مخابرات ومدير الاستخبارات السابق ومن المقربين جداً للرئيس صدام .. أخاف ان يتّهمني بالطائفية فمهما يكن هو رجل عسكري ومخابراتي واستخباراتي. قال: مع ذلك إنه رجل طيب.. جرّب أن تزوره. أخذت بعضي ومعي الزميل المصور سمير هادي وذهبنا الى مبنى المحافظة وهناك التقينا الشاعر حسن النواب وبعد جهود مضنية تمكّنا من مقابلة محافظ كربلاء الفريق الركن صابر عبد العزيز الدوري بمساعدة حسن النواب.. وبينما كنت أبحث عن مدخل للحديث اعتذر منّي المحافظ بسبب التأخير في مقابلتي، وكانت هذه أول جملة كسرت حدّة ملامحه التي كنت أجدها قاسية، ربما لأسباب نفسية فأنا أخشى الحديث مع رجل مخابرات ، فكيف لي التحدث مع مدير جهاز المخابرات كلّه ومدير الاستخبارات العسكرية كلها في زمن حربنا مع ايران، حيث كنت أحسب ألف حساب لجندي حضيرة الاستخبارات في وحدتنا العسكرية. هذه المخاوف والهواجس جعلتني أستحضر أفضل ما لديّ من ثقافة ووسائل اقناع. وكان الرجل يستمع لي بهدوء مع حركة ماهرة من عينيه تدلل على النباهة، وعندما كرّرت عليه عبارتي”إنني لن أكتب عن الكرامات وإنما أن نكشف الحقائق للناس خدمة للمجتمع والدين والوطن “. سألني بشيء من العصبية: - لماذا لا تكتب عن الكرامات؟. إنك تكتب عن سيدنا العباس. قلت له: أخشى أن أتّهم بالطائفية، كما انه لا يسمح لنا بتناول الكرامات في الصحافة والاعلام! سألني مبتسماً: تخاف من الحكومة؟ ابتسمت مرتبكاً ، وقبل أن أجيبه أضاف: - هذا شيء لا علاقة له بالطائفية ولا بتعليمات الحكومة.. إنّ الله قادر على أن يضع آياته في كل شيء، فلماذا نستكثر أن يضع الله سبحانه وتعالى آياته في هذا العبد الصالح سيدنا العباس”ع “ الذي حرم نفسه من شرب الماء لعطش ابن بنت رسول الله، فكرّمه ربّنا بأن جعل قبره محاطاً بالماء.. أليس هذا تفسيراً معقولاً؟ قلت : بلى.. لكن يقال أنها مياه جوفية. قال: صحيح.. لكن لماذا لم تظهر هذه المياه في مكان ضريح الحسين”ع “ والتي هي بنفس العمق ولا تبعد الحضرة الحسينية عن الحضرة العباسية كثيراً.. أليست هذه كرامة؟. أكتب على مسؤوليتي اذا أردت، أنا شخصياً كنت شاهداً على كرامة هذه المياه.. قبل أسابيع اتصل بي هاتفياً رئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين خضير وأخبرني بوجود بروفسور هندي تعاني ابنته من الصرع الدائم وأمراض أخرى، وفي الرؤيا نصح الأب البروفيسور بأن يذهب بابنته الى سرداب قبر العباس”ع“ وأنها لن تشفى بغيره، وفعلاً اتصل البروفسور الهندي بصدام حسين، وطلب منه السماح بزيارة سرداب القبر والاخذ من مائه، وها هو أمر الرئيس بالسماح بالزيادرة .. وفعلاً جاء البروفسور وابنته ودخلا السرداب وغسّلت ابنته بالماء وشفيت فوراً.. ولدي الكثير من القصص.. قلت له: أنا أصدّق وأؤمن بما تقول، لكن أنت تعرف أن الاعلام تابع للدولة.. وألف باء مجلة رسمية! ومن ثم سألني الدوري: هل عندك قدرة على النزول الى السرداب ومواجهة قبر سيدنا العباس؟ طريقة إلقاء السؤال فيها شيء من الخشوع والتحدّي والتحذير، لكني أجبته مباشرة: - نعم.. أستطيع فأنا أمام مهمة خطيرة تخص ملايين المسلمين وتخص الكثير منهم الذين يعتقدون أن جثة العباس مازالت طافية على النهر وأن النهر مازال يجري. قال : أود أن اخبرك، أنه بعد قضية البروفسور الهندي اتصل بي قاسم سلام عضو القيادة القومية مسؤول الحزب في اليمن، وطلب منّي الدخول الى القبر، وقد جاءني فعلاً.. لكنه ما أن نزل درجتين من سلم السرداب حتى اصطكت ركبتاه واجهش بالبكاء ثم انهار وأخرجناه قبل أن يصل الى القبر الشريف.. أعطيك هذه الصورة لكي تعرف ما معنى زيارة قبر سيدنا العباس "ع". - أنا مستعد لذلك وأعرف أشياء أكثر مما قلته عن كرامات العباس "ع". عندها، رفع الفريق صابر الدوري سماعة الهاتف وكلّم السيد الغرابي وأمره أن يفتح لي باب السرداب والنزول الى القبر وأن أفعل ما أشاء من دون تقييد.. وضع سماعة الهاتف والتفت لي: - أدخل واكتب وصوّر.. وأرجو أن لا تخذلني بالكتابة؟ حكاية النهر على مدى يومين منحهما لنا من وقته سادن الروضة العباسية مع سادن الروضة الحسينية حاولنا الخروج بإجابات عن عشرات الاسئلة.. بدأنا البحث عن نهر العلقمي هل هو فعلاً يجري تحت الحضرة المقدسة؟ من خلال اطلاعنا على بعض الكتب في مكتبة الحضرتين وجدنا أن الامام الحسين”ع “ كان قد اختار مكان معركة الطف وفق رؤية عسكرية مسبقة، حيث نصب مخيماته بين مجموعة من التلال محاطة بقرى الفاخرية والنواويس ونينوى وكور بابل التي ترجع اليها تسمية كربلاء.. والى الخلف بعيداً عن”التل الزينبي“ هناك هور يشكل حماية طبيعية خلفية لمعسكر الحسين"ع". وفي الأمام يقع نهر العلقمي الذي هو فرع من نهر الفرات القديم وقد اندثر منذ قرون ويبعد مكانه عن مرقد العباس "ع" بمسافة ”150 ـ 200“ م قريباً من مقام سقوط الكف الايسر.. حيث تدلّ هذه الامكنة على مسار حركته "ع" عندما أخذ الماء من النهر ومن ثم قطعت يده اليمنى وبعد ذلك قطعت يده اليسرى بمسافة قبل أن يسقط صريعاً في مكانه الحالي.. بينظير بوتو تمنع تصوير القبر زميلي المصور سمير هادي هيأ نفسه لالتقاط صور القبر، إذ إنه سوف ينزل ويكشف الحقائق بالصور.. عند باب الضريح . وعندما لاحظ السيد الغرابي استعدادات المصور قال لي: - صحيح أن المحافظ وافق على التصوير لكن لي رجاء فأنتم مسلمون وأعتقد أن تصوير القبر يمسّ حرمة العباس، أنا لا أمنعكم لكن أعتقد أنّ في الامر شيئاً من مسّ الحرمات، وأسرد لك ما روته لنا بينظير بوتو وزوجها آصف زادة عندما زرناهم في الباكستان قبل سنوات، حيث عقد المؤتمر الاسلامي هناك، وقد أقامت بوتو وزوجها دعوة غداء في بيتها للوفد العراقي وأتذكر ضمن ما قاله آصف زادة حيث كان قد خسر الانتخابات مع زوجته بينظير: ”لا نستغرب خسارتنا الانتخابات واتهامنا بالفساد لأننا اعتدينا على حرمة العباس”ع “ فعندما زرناه دخلنا على قبره في السرداب، وهذا لا يجوز.. تصوّر أنك تدخل على رئيس جمهورية وهو نائم، وفي ملابس النوم.. هل يجوز هذا؟ فكيف فعلنا ذلك مع العباس "ع" علماً أن بوتو عندما دخلت السرداب منعت المصورين الذين يرافقونها من تصوير السرداب والقبر احتراماً للعباس"ع". عندها طلبت من الزميل سمير هادي أن يغضّ النظر عن التصوير وفعلاً استجاب لطلبي وأعاد كاميرته الى حقيبته وعاد الى بغداد.. دخلنا الحضرة العباسية المطهرة. عند الزاوية الشمالية الغربية من الحضرة في مصلّى النساء فتح لنا باباً فضياً عملاقاً حيث دخلنا غرفة مربّعة وطلب منّا أن نخلع ملابسنا بعد أن أغلق الباب خلفنا الزميل حسن النواب الذي رافقني. بدأ يثير الاسئلة بعد أن لاحظت الخشية تسيطر عليه وكأنه يتردّد في النزول الى السرداب.. لكن السيد زكي الذي أوكلت له مهمة مرافقتنا وتأدية طقوس الزيارة نادانا قائلاً: ”توكّلوا على الله بعد أن فتح أقفالاً في الارض ورفع شبّاكاً حديدياً يغلق مدخل السرداب.. من الخارج شاهدت الماء الذي كان حكاية الحكايات بالنسبة للكثير من الناس.. هبطنا درجات من المرمر الابيض المزخرف بخطوط سود، كانت ثماني درجات، ومع كل درجة أهبطها كان الماء يتسلّق ساقي، حتى استقرّ فوق ركبتي، عندها وجدتني في دهليز يبلغ عمقه نحو مترين وعرضه أكثر من متر يمتدّ أمامي بعمق متساو، لكنه ينحني مشكّلاً دائرة شبه مضلّعة، مضاءة بمصابيح كهربائية اعتيادية.. كانت المياه صافية مثل الزلال بحيث كنت أرى من خلالها تفاصيل خطوط أظافر قدمي، بالرغم من طبقة الغبار الخفيف المتسلّل من فتحات جانبية تشكل نهايتي دهليزين جانبيين ينفتحان خارج مبنى الروضة للتهوية ولكن بمسافة بعيدة عن الدهليز الدائري.. أول شيء فعلته أنني شربت الماء لأتذوّق طعمه، فكان عذباً ونقياً وليس مجّاً أو مالحاً كما هو شأن المياه الجوفية، وعلمت أنه محافظ على مستواه حتى وإن تغيّرت نسب المياه الجوفية في أراضي كربلاء.. أثناء تقدّمنا لم يتغير صفاء الماء بالرغم من أن السيد زكي قد سبقني مؤدياً طقوس الزيارة والبسملات والحوقلات والصلوات. سقف الدهليز الذي يشكل أرضية الحضرة المطهرة في الاعلى مبنية من الاسمنت والجانبان من الطابوق، الجانب الخارجي مبني بالطابوق الحديث، أما الداخلي الذي يشكل غلافاً للكتلة الدائرية التي يستدير عليها الدهليز فأغلبها مبني بالطابوق الفرشي القديم يعود الى عصور ماضية متعددة حسب فترات الترميم، بعضه مبني بالاسمنت، والبعض الآخر بالنورة والرماد حيث لم يكن هناك إسمنت آنذاك.. الكتلة الدائرية التي يستدير عليها الدهليز تكاد تكون بقدر مساحة الحضرة، حيث يقوم في الاعلى الصندق أو الخاتم المصنوع من الصاج الفاخر ومطعّم بالأصداف والزخارف النادرة وعليه الشباك الفضي المغطى بالذهب الخالص المزيّن بالآيات القرآنية والزخارف النباتية والفنية. أما الدهليز الذي نمشي فيه فيكاد يكون تحت رواق الطواف على الشباك تماماً. بعد خطوات ينفتح في الكتلة الدائرية دهليز آخر أضيق قليلاً ويشكل قطراً للكتلة الدائرية، وفي منتصف القطر الذي هو منتصف الكتلة الدائرية ينهمر ضوء ساطع على فراغ حيث يقوم القبر المطهر الشريف مغموراً بالضوء بشكله المربع الذي تقدر مساحته بحدود 3 × 3 متر. هنا وجدت رأسي يمتدّ ويتوقف محشوراً ابو تحسي, [١٧.١٠.١٧ ٢٠:١٢] في المنتصف، يتملّى من القمر الهاشمي المضمّخ بدماء الشهادة والثبات بلا ذراعين تحوم حوله تلك الهالة العظيمة التي صنعها شرف النسب والمواقف والموت التراجيدي للبطل. في هذه اللحظة اختلطت عليّ الوقائع والمخيّلة عندها تذكرت كل ما قيل عن العباس”ع“ ولم أستغرب كل ما يتداوله الناس بشأن هذا الولي الصالح، فهو من المنظور الميثيولوجي طبيعي جداً على وفق معطيات ”الموت التراجيدي للبطل“ فكيف الامر والروايات التاريخية تشير الى أنه عندما صال العباس على الظالمين الذين يحولون بين آل الرسول ”ص“ والماء، انشقّت أمامه الجيوش وانكشفت المشرعة بعد أن انشغل المارقون بالتطلّع الى بهاء طلعته وجمال وجهه الذي منحه لقب ”قمر بني هاشم“، إضافة الى ضخامة جسده، حيث يقال أنه ”ع“ اذا ركب الفرس خطّت قدماه في الارض وقد استشهد وعمره”34" سنة.. إزاء هذا الخاطر وجدت أنّ الاسمنت يغلّف هالات من النور والتقوى وهي بعض أسرار قداسة ارضنا.. سألني حسن النواب: هل تشمّ هذه الرائحة الطيبة؟ لم أجبه. فأنا واقف الآن تماماً على المكان الذي جلس فيه الحسين”ع“ يتفقّد جراح أخيه، فقد انشغلت بتحديد الاتجاه الذي ركض به سيد الشهداء الامام الحسين ”ع“ بعد مصرع أخيه وحامل لوائه.. تنحّيت عن مكاني ثم دسست رأسي وكأني أحاول تحديد المكان الذي جلس فيه الحسين ”ع“ ووضع رأس أخيه المفلوق في حجره .. ترى من كان يشكو لمن؟ العباس الصريع؟ أم الحسين الوحيد؟.. كأني أسمع حوارهما، غير آبهين بقعقعة السيوف وتصرّفات الخبثاء.. المكان نفسه لم يتغيّر وهذا ما أشعل مخيّلتي فجثمان العباس”ع “ الوحيد من بين شهداء الطف لم ينقل من مكانه ودفن في مكان مصرعه.. الدم يتوهّج وأرهف السمع لحوارهما.. لكن صوت الحوراء زينب جاء مشروخا مرعوبا وهي تنادي من على التل الذي سمي فيما بعد بالتل الزيبني، فجيوش ابن سعد أضرمت النيران في خيم النسوة والاطفال.. ياه.. ما أشدها من محنة من محن سيد الشهداء في تلك اللحظات وذلك اليوم.. فما بين الحوار الاخير مع حامل لوائه الذي يلفظ أنفاسه الاخيرة، وما بين عويل النسوة واليتامى من رعب النار التي اشتعلت في أذيال ثيابهم.. وجد سيد الشهداء نفسه حائرا.. لم أسمع ولم أقرأ كلمات الوداع الاخير.. فقد نهض وحمل سيفه ليذود عن حرم رسول الله. كان ثمة فراغ بين القبر وكتلة الدائرة التي بدا التهرّي على طابوقها الفرشي لقدمه.. اختلط عليّ الضوء والماء، ثمة رسائل وأوراق تطفو ما بين الماء والضوء، التقطتها وأخذت أفضّها رغم بللها وأحاول أن أقرأها، إنها رسائل شكوى واستجارة بهذا الولي الصالح من ضيم الدنيا، حاولت قراءة الاسماء والكلمات. كانت رائحة الفجيعة محسوسة من الحبر المنتشر على الورق بفعل المياه، بعد لحظات أجد صورتين لفتاتين كانت المياه قد شوهت الكثير من ملامحهما، تساءلت كيف وصلت الرسائل والصور الى هنا؟.. ولماذا استجاروا بولي بلا ذراعين مكبل بالاسمنت؟ تذكرت ما قاله لي صابر الدوري: ”بالرغم من إيماني بالعلم، لكني لا أستغرب أن يضع الله سبحانه وتعالى آياته في بعض أوليائه الصالحين "إذآ إنه الايمان المطلق بالله ومن ثم بالاولياء الصالحين". استدرت في الدهليز، اجتزت النصف الايسر من الكتلة الدائرية وتوقفت عند الطرف الاخر من الدهليز الوسطي الذي يشكّل قطر الدائرة وأطلّ مرة أخرى على القبر.. المياه لا تغمر القبر وإنما تصل الى نصف ارتفاعه وثمة فراغ بين القبر والكتلة الدائرية.. يلوح من تحت الماء فيها الكاشي الكربلائي الذي بلّطت فيه الارضية المحيطة بالقبر، وكأنها وضعت فاصلة بين القبر ومن يريد الاقتراب منه. ثمة تصدّعات في قشرة الاسمنت التي تغطّي القبر تغريني بالتحديق وكأنها ستقودني الى رؤية ما في القبر.. ذراعان مفتولتان مبتورتان من الساعد.. قربة مزقتها السهام.. انكسار شديد يغشي العين التي نبت فيها السهم الطائشي، إذ تقل الحيلة وتعزّ الوسيلة، ونداء العطش يطبق على الافاق.. فأين كانت هذه المياه من تلك اللحظات التي أشعلها العطش؟ أسحب رأسي وأستدير على النصف الايمن من الكتلة الدائرية لأجد دهليزا ثالثا يقود الى منتصف الدائرة ”القبر“ لكنه متعرّج وأضيق من أن تمدّ رأسك فيه فتعلق عند منتصفه بالطين، من الواضح أنه يعود الى عصور تاريخية ليست قريبة.. أتركه لأجد نفسي عند نقطة الانطلاق، إذ تنتهي الدائرة فأصعد الدرجات المرمرية حاملا معي إجابات عن الكثير من الاسئلة التي بدت لي غامضة قبل نزولي السرداب ولأجد السيد الغرابي بانتظاري. خزائن ونفائس سألني الغرابي: هل وجدت شيئا من الحكايات والخزائن والنفائس الملقاة على القبر؟ قلت له: كلا لم أجد شيئا.. لكن أين الخزائن؟ وهنا راح يوصف لي الخزائن بأنها نفيسة ونادرة محفوظة في مكان لا يستطيع الافصاح عنه، وفيها سجلات خاصة لديه ولدى الاوقاف ولدى ديوان الرئاسة، وتضمّ هذه النفائس تيجان من الذهب والفضة والاحجار الكريمة والدرر مهداة من ملوك وأمراء ورؤساء وشخصيات من شتى الفترات التاريخية ومن مختلف بقاع الارض، وسجاد ثمين وثريا ت نادرة، فضلا عن مكتبة عامرة تضمّ نفائس المخطوطات والكتب النادرة وهذه جميعها تشكل أحد أسرار الروضة العباسية المطهرة التي لم يخبرني عنها الغرابي بالرغم من أننا أصبحنا أصدقاء فيما بعد، وزرت القبر من خلاله مع بعض الاصدقاء أكثر من مرة.. وقد سألت الغرابي وقتها: وهل أضاف صدام شيئا لهذه الخزائن؟ ضحك وكأنه فهم السؤال: السيد الرئيس باستمرار يرعى المراقد الدينية، وآخر ما تبرّع به للروضة العباسية 44 كيلو غراما من الذهب و150 كيلو غراما من الفضة لتذهيب طارمة الروضة. من أين جاء بهذه الكمية من الذهب؟ مسك الغرابي يدي وسحبني إليه وهمس لي: - الذهب مال العباس من النذور التي نجمعها ولدينا كميات كبيرة منه، لكن صدام ”يأمر“ بأن نصرف منه كذا كمية، فيقال عنها مكرمة، لكنه في الحقيقة لم يدفعها من جيبه ولا من أمواله. تاريخ الضريح المطهر دفن العباس”ع “ مع أخيه الحسين”ع “ وشهداء الطف بعد ثلاثة أيام من استشهادهم أي في الثالث عشر من محرم الحرام ولم يكن في هذه الارض أي معلم أو بناء.. أول بناء أقيم على قبره الشريف هو سقيفة بناها المختار بن عبد الله الثقفي سنة 67 هجرية، وقبل ذلك علّمت القبور من قبل الامام زين العابدين علي بن الحسين”ع “ وكان القبر معمورا في خلافة بني أمية وأول الخلافة العباسية. وفي سنة 247 قام الخليفة العباسي المتوكل بهدم قبري الحسين والعباس”ع “ وزرع فوقهما الزرع، وجعل الثيران تحرث فوقهما، بينما كانت زوجة الخليفة تعمل بالسرّ على إدامة القبرين لكي لا يضيع أثرهما حتى مات المتوكل وجاء ابنه الذي أعاد القبرين وأعاد لهما هيبتهما. وفي سنة 369 هـ أقام الخليفة العباسي الطائع لله بن المطيع بناءً جليلا عليه ويعدّ أول بناء ضخم أنشئ على القبر. وفي سنة 1221 هـ بنيت أول قبة عليه ومئذنتين بناها أمين الدولة الصدر الاعظم وغلّفها بالكاشي الكربلائي. وفي سنة 1306 هـ أمر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بتسقيف الايوان القبلي بالخشب الصاج الثمين، وحدث تطور على عمارة الضريح سنة 1339 هـ عندما ذهبت الواجهة الامامية من الايوان القبلي وهذه أول مرة يدخل فيها الذهب على المرقد- كما يقال - . وفي عام 1955 م غلّفت القبة بالذهب بعد أن كانت مغلّفة بالكاشي الكربلائي. أصداء بعد نشر الموضوع في مجلة ”الف باء“ حدثت أصداء كثيرة سواء في الشارع أم في أعلى مستويات الدولة، إذ نوقش الموضوع في اجتماع مجلس الوزراء وقرّر تشكيل لجنة لسحب المياه الجوفية.. أثناء ذلك اتصل بي الفريق الركن صابر الدوري من خلال الزميل حسين فوزي مدير تحرير”الف باء“ ودعاني لزيارته أنا وعائلتي، وفعلا ذهبت الى كربلاء ومعي أحد الاصدقاء. وقال لي: أنت أسعدتني بالموضوع ولم أفرح منذ زمن، فكيف تريد أن أفرحك؟ أجبته بأنه فرّحني عندما سمح لي بالانفراد بهذا السبق الصحفي، عندها قال لي: أنا وأنت يجب أن نصبح أصدقاء ولأنك تكتب بهذه الطريقة الهادئة التي أثارت اهتمام ”القيادة“.. سأطرح عليك موضوعاً مهماَ جدآ يعطيك سبقا آخر، يخص ضريح سيدنا الحسين”ع“. ومن ثم راح يروي لي قصة طويلة عن الصخرة التي حزّ عليها رأس الحسين الشريف الموجودة في مكان ما من المرقد إذ تفوح منها رائحة زكية لم يعرف مثلها، يقال أنها أنفاس فاطمة الزهراء”ع“ التي شهقت عند حزّ رأس ولدها الشريف وبقيت تفوح منها حتى الان.. وأكد أنه لم يصدّق الموضوع الى أن باغت السادن في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل وبعد تنظيف وغسل الحضرة المقدسة، إذ زار الصخرة وشمّ الرائحة.. وأكد الدوري أن هذه كرامة أخرى من كرامات آل البيت يجب الكتابة عنها.. قلت له: هل تعتقد أن المسؤولين سيصدّقون ما أكتب؟ ومن يحميني منهم؟ قال: هذه حقائق قلت: هل تتكفل بحمايتي؟ قال: لا أتدخل في الاعلام عموما كانت مبادرة جميلة ورائعة من الرجل، فقد كان محبا لآل البيت ولأهل كربلاء ومخلصا لهم.. أتمنى أن تتسنّى لنا الفرصة أو لغيرنا للكتابة عن هذا الموضوع.

ارسال التعليق