شـــــــــال

شـــــــــال
شــــــــــــــــــــــــال كان صباح من الصباحات الجميلة في جنوبنا الحبيب في أوائل الشتاء استيقظت حنان على صوت أمها تحثها على النهوض من فراشها حنان حنان ولج اكعدي صار الظهر ليمته تكعدين تفتحين الدكان ( كانت الساعة السادسة صباحا ) بهذا النداء وهذه اللهجة الجنوبية استيقظت حنان لتفتح عينيها على صرخات أمها اليومية . كان والد حنان يدخن في باحة البيت الأمامية. وهو يشعل فتيل سيكارته الثانية ,وزمجر على ام حنان لتخفض صوتها (صوتج عالي يا مره نصي حسج ) نهضت حنان مبتسمة لاستمرار جدال والديها اليومي . ورد والدها التحية عليها وبقى يتأمل ابنته , متجاهلا جدال زوجته وكيف انعم الله عليهم بهذه الفتاة الجميلة بعد طول صبر, فقد أحبوها كثيرا وشكروا الله على نعمته فقدوم الولد تأخر كثيرا . خرجت حنان كعادتها لتفتح الدكان الذي يحتوي على بضاعة بسيطة من المواد الغذائية تمول بها سكان قريتها كان الدكان من الطين ورغم بساطته وفقره فقد أحب الناس القدوم إليه , لتبضع منه فقد اعتادوا ذالك منذ سنين ,عندما كان والد حنان يعمل به ولكن لكبر سنه ومرضه اوكل العمل إلى ابنته الوحيدة . في هذه الإثناء يمر من على مسافة ليست ببعيدة من الدكان ابن قريتها الشاب محمد لكن ليس كعادته يسلم ويشتري علبة سكائر لقد أطال النظر إليها وذهب !؟ محمد شاب طيب ومؤدب ومن عائلة متوسطة الحال ويحب حنان . فكر بينه وبين نفسه (هيج أحسن إلها ما أريد احد يحجي عليها ) ولخوفه وحرصه عليها فضل ان يراها من بعيد ... فقرر الامتناع عن الاقتراب من الدكان .... فكرت حنان (راح يرجع بعد شهر هو بالجيش يا ربي بعد شهر يلا أشوفه ؟! بعد شهر , بعد شهر....) انتبهت انها تقولها بصوت عالي. ( بس هو ما لابس ملابسه العسكرية !!) وبخت نفسها لانشغالها بهذه الأمور, ابتسمت وهمت لإكمال ما بدأته من إعمال تنظيف وترتيب الدكان .في صباح اليوم التالي كان الفجر قد اقبل وصوت المؤذن يدعو إلى خير العمل , وبعد صلاة الفجر خرج محمد مودعا أهله ليلتحق بوحدته العسكرية وخرجت أمه خلفه تنثر قطرات من الماء تحت قدميه ليعود لها سالما . سار في طريقه إلى إن وصل إلى مكان عملها وأصبح قريبا من الدكان ووقف للحظة يتخيلها شاخصة إمامه (لقد حرم نفسه من الوصول إلى هنا إخلاصا وخوفا عليها, اخرج من سترته شالا بلون برتقالي جميل ولفه على قفل الدكان وغادر .... وودع محمد حنان وداعا وحيدا , قلبيا صامتا ) في هذه اللحظات يعم السكون بيت حنان , إلا من حركة والدها انتهاءه من أداء فريضة الصلاة . استيقظت حنان فجأة وكان شيئا يحثها على الإسراع بالنهوض , كان النور يأخذ طريقة إلى البزوغ , خرجت من البيت مسرعة ينتابها إحساس قوي ممزوج بألم الفراق , والحنين لرؤيته قبل سفره أسرعت وحثت خطاها لكنه رحل !! ... عندها وقعت عيناها على قفل الدكان وهو مطرز بلون برتقالي وهي تقول هذا الشال من محمد ! عرفت انه منه فقربته من وجهها فامتزجت دموعها بفرحة الشال وألم فراقه . اعتادت حنان على ارتداء هذا الشال على أمل إن يأتي ويراها ترتديه . استمرت حنان كعادتها تعمل في دكانها الصغير, ولانشغالها لم تنتبه لقدوم محمد , وهو يسترق النضر إليها مرتدية الوشاح , فابتسم وسلم عليها وهو يقف بعيدا, ويتأملها بصمت سوى نغمة دقات قلبه المتسارعه , وصوت عقله وكلمات عيناه عبرتا عن شوقه لها . لقد مر شهران منذ إن رآها أخر مره . استقبلت ام محمد محمد بالفرح لعودته للبيت, لان الأوضاع كانت خطرة في تلك الفترة ,ووحدته العسكرية في البصرة , و كثيرا ما تقلق عليه والدته . محمد من عائلة ميسورة نوعا ما ووالد محمد رجل بخيل, فقد بخل على ولده إن يدفع له بدل العسكرية , لكن محمد لم يهتم لهذا الأمر وقرر إن ينهي ما عليه من سنين الجيش دون مساعدة من احد . قرر محمد مفاتحة أباه ليخطب له حنان فهو يحبها , لماذا لا يخطبها ؟ رفض والده طلبه وتجادلا وعلت أصواتهما في البيت , حتى وصل الى مسامع الجيران.... محمد : ليش ما تقبل يابه ؟! الأب : ما عايزين فكر, شوفلك ابنيه غيرها . محمد :حنان زينه وأهلها خوش ناس. الأب : لا ما اقبل كتلك ما اقبل , شنو تريد تبسط أبمكانها بالدكان... قالها والد محمد مستهزئا . غضب محمد وأنهى إجازته وسافر. ومن شدة عصبيته لم يلتفت الى الدكان قالت حنان بحزن : (ما شافني لابسه الشال ؟ يلا على المره الجايه ). وكان لجدال محمد ووالده اثر في انتشار الأقاويل , وتطوير الإحداث كلا على مزاجه في قرية صغيرة تنتشر الإشاعات فيها بسرعة . وبعد أيام حصلت مداهمات ,واعتقالات , وإطلاق نار. كانت حنان في دكانها فأسرعت , وأغلقت الدكان لترجع الى بيتها, لكنها لم تكن أسرع من الرصاصة التي اخترقت صدرها , فسقطت وبالقرب منها شاب وطفل من قريتها وصاحا:حنان.. لكن وابل الرصاص اخرس صرخاتهما. وعندها حضرت سيارة تابعة لأزلام النظام وحملت الجثث ورحلت ,لم يرى احد اي شيء فقد ذهب الناس لبيوتهم ليحتموا من هذا الرصاص العشوائي المنبعث من كل مكان . دب القلق في بيت حنان , فكلما حاول والد حنان الخروج منعته ام حنان , لخوفها عليه ومنعه الرصاص من الخروج لشدته, صار المغرب وحل الليل ولم تعد حنان , اطل الصباح فخرج والد حنان مهرولا إلى الدكان غير عابئ بحضر التجوال, ولكن الدكان مغلق والقفل عليه , أين أنت يا حنان ؟ فتح الدكان لكن لم تكن هناك , واخذ يضرب رأسه , ويصرخ أين أنتي يا بنيتي؟ راح يبكي ويتألم من رعب ما فكر به ... ومرت الأيام ونسى الناس هذه الغارة , لكثرت حدوثها ولاعتيادهم عليها, لكنهم لم ينسوا الأقاويل , فكان لغياب حنان اثر في استمرارها , فعمل بعض المغرضين على ربط غيابها بعدم عودة محمد إلى البيت . إنهما هربا معا!! ومرت السنون سريعة لكنها كانت مثقله بالألم على عائلة حنان .. ولم يصل اي خبر , مرت عشر سنوات !! سقط النظام لكن العار لم يسقط عن عائلة حنان . وتصاعد الإحداث واكتشفت الكثير من المقابر الجماعية في اغلب المحافظات , من ضمنها هذه القرية الصغيرة فتجمهر الناس حولها وكان بينهم والد حنان وأمها , فجأة! فصرخت أم حنان : لتصمت كل أهات الألم (هذا شالها ...) كان الشال ملتفا على ابنتنا البريئة. لقد ظلمتموها تعالى صوت والد حنان : آه آه فبين مواسي ومعزي سقط العار أخيرا !! عن حنان , حنان البريئة كبراءة ضحكتها . مرت الأيام وعاد محمد من غيبته فقد اعتقل في احد السجون العراقية وغيب فيها لمدة طويلة, بسب نشاطه ضد حزب البعث ,عاد وقد خط الشيب رأسه رغم انه ليس كبيرا جدا , كان في ريعان شبابه عندما غادر, انه في الثلاثين ألان , فرح الأهل بعودته وتألم الأب لرؤية ولده على هذا الحال , بعد طول غيابه, ولظلمه إياه , ولظلم الناس له ولحنان , عاد محمد للمسير بالقرب من دكان حنان هذا شالها يرفرف , أنها في الدكان كعادتها .. واخرج النقود واخذ علبة سكائر , وابتسامته تملئ وجهه أنها حنان تحييه ويأخذ منها العلبة ويغادرها وهو سعيد .... متخيلا إياها متذكرا الماضي البعيد . وكأن لسان حالها يقول مرددا بيت الابوذيه : بجيت ابدم دموع ارداي يبلن على كشح النحيل الحمل يبلن اوحياتك لو اعظام اعضاي يبلن ابثرى لحدي اوهواك ايحيط بيه النهاية

ارسال التعليق