كرنفال الروح في ( مقامات نورانية )

كرنفال الروح في ( مقامات نورانية )
بدعم من مؤسسة همم في مدينة الناصرية ، صدر مؤخرا المجموعة المسرحية ( مقامات نورانية ) للكاتب المسرحي عمار نعمة جابر ، ضمت بين طياتها تسعة نصوص مسرحية ، كانت ذات مضامين وأطروحات امتازت بالبناء الحديث في التشكيل النصي ، ولكنها تفاعلت ضمن عنوان جانبي شكل نوع الانتماء الذي يمكن لنا أن نزيح هذه النصوص التسعة له ، ألا وهو ( نصوص لمسرح التعزية ) مما شكل فعلا تجربة جديدة وغير مسبوقة في مضمار لازال تحت مبدأ التجريب في مختبرات جماعة الناصرية للتمثيل بقيادة الناقد والمخرج المسرحي ياسر عبد الصاحب البراك .ولاجل قراءة التجربة الجديدة قراءة تقترب من الدقة والتفصيل ، اخترت انموذجا واحدا من النصوص التسعة ، أطلق اسمه على كل المجموعة ، وهو نص ( مقامات نورانية ) . ولأجل أن نحدد ملامح نص ( مقامات نورانية ) والذي جاء بواقع أربعة مشاهد : ( الأول مقامين ، الولادة والمهد . والثاني ثلاثة مقامات ، العصمة والعبودية والبلاء . والثالث مقامين ، الرؤيا والعفة . والرابع مقام واحد هو الخلود ) . علينا أن نقرأ تلك المقامات انطلاقاً من العنوان الفرعي وهو ( تعزية مسرحية للأمام موسى الكاظم عليه السلام ) وحسب ما يلي : أولاً / ( بنية العنوان الرئيسي ) فلقد أراد الكاتب ومنذ الوهلة الأولى أن يضفي على نصه شيئاً من القدسية والجلال ، ليأخذ بيد القارئ إلى عوالم الملكوت والرهبة والخشوع ، وكأن النورانية هنا جاءت لكشف الستار عن الأمور التي تحدث بمنأى عن الأبصار مع ارتباطها بمفهوم المقام وما لهذه المفردة من عمق دلالي في مرجعيات المتلقي ، إذاً فالتزاوج بين المفردتين ( مقام + نوراني ) يعني أن هناك بعداً تأويلياً خصوصاً أن الكاتب اتسق صفة النورانية بالمقام ، بمعنى أن المقام هنا يكتسي غطاء التجلي حتى وإن كان أرضي الوجود ، فنورانيته فيض متصل بالملكوت الأعلى .ثانياً / ( مقامان في عالم واحد ) رغم الفصل الحاصل بين مقامي ( الولادة ، والمهد ) إلا انهما في عالم واحد ، إذ أن الولادة المرتقبة والتي جاءت عن طريق التنبؤ الحاصل من ( العرّاف ) وعلاقته بالعوالم العلوية ، تنذر بأهمية ما يحدث في هذه الليلة من جراء الحركة الفلكية غير الطبيعية وتقاذف الشهب باتجاهات متعددة وتلألأ الكواكب بلمعان شديد ، وكما جاء على لسان ( المساعد الأول للعراف ) يفرز هذا الفعل عن أهمية القادم وأثره في العالم الأرضي ، ثم إن ربط أحداث ولادة الإمام الكاظم (ع) بولادة السيد المسيح (ع) ، ودخول السيدة الجليلة مريم ( ع) وهي تعاني ألم المخاض ، ومخاطبة السماء لها بقولها ( هزي إليك بجذع النخلة ) يدل على ( ورائية النشأة والامتداد ) المتواترة على لسان سيد الأنام محمد (ص) كما جاء على لسان العرّاف ( مسيح يكمل درب الأنبياء والأولياء والأصفياء ) . كما أن الكاتب أراد أن يشكل كل متعلقات مهدوية المسيح واسقاطها على مهدوية الإمام كقول الرضيع ( إني عبد الله .. جعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ) .ثالثاً / ( الفتن المظلمة ) ففي مقام العصمة طرح الكاتب ( جدلية العصمة ) ، تلك الموضوعة التي إلى الآن ـ محض اختلاف ـ بين علماء المسلمين ، عبر صراع الشخصيات فيما بينها إذ يختزلها في حوار رجل3 ( مولاي .. لقد طحنتنا قطع الفتن المظلمة ، وغدت أنوار الدروب مشوبة بدمى قرقوزية تعتلي المنابر لترقص ظلالاً وضياع ، فالباطل في العقيدة غدا حقاً تذعن له رقاب الناس ) فكان الكاتب يشير إلى تواصلية أزمنة الحدث التاريخي والخلاف الذي نشب ، ليس بين فئة وأخرى بل شمل القريب والبعيد وحتى الإنسان وذاته .رابعاً / ( الصحوة والظلال ) وفي مقام العبودية يستل لنا الكاتب من رحم التاريخ درساً من دروس الإمام (ع) مع ( بشر ) الذي طعم شباك الشيطان ، وبكلمة واحدة قالها الإمام بحق بشر : ( فلو كان عبداً لاستحى من ربه ) . فتوظيف هذا المشهد التاريخي المعروف لم يأتي ضمن أنساق النص كحالة إعلامية لدلالة تأثير الإمام في نفوس الآخرين ، ومقدرته على استحواذ القلوب بكلمة واحدة حسب ، بل جاء كتعبير لأثر الصحوة في تغيير الإنسان ، ودور المؤمنين في إيقاد جذوتها ، كما فعل الإمام (ع) ، ثم تتحول صورة العبودية إلى صورة البلاء وهاتين الصورتين متداخلتين ، وإن كانت الأخيرة تبحث عن أحداث السجن وامتداد هذه الشبكة العقلانية مع ( يوسف الصديق (ع) ) إلا إننا ندرك بأن الإنسان كلما اشتدت عبوديته لله كلما أزداد بلاءه ، لقول رسول الله (ص) ( لا يزال المؤمن في البلاء حتى يلقى الله خالياً من ذنوبه ) . ثم إن الكاتب يحاول أن يماهي ويحاور ويجاور الأحداث بين التي عاشها الإمام ( الحدث الواقعي ) ، وبين أحداث الأنبياء التي توافق الأحداث الأولى ، سعياً منه للترميز إلى حدودية الهدف والسلوك والعناء الذي حمله الجميع ، وأنهم سفراء بررة تنوعت أدوارهم ولكن هدفهم واحد ، ثم إن الكاتب استطاع إن يستحضر لكل منحى من مناحي الإمام كمعادل موضوعي لمناحي الأنبياء (ع) وبذلك حقق المفهوم الذي ذهبنا إليه ، ففي السجن مثلاً يلتقط الصورة المرجعية على لسان رجل2 وهو يقول : ( لقد رأيت رؤية أهالتني ، فقد رأيت ستمائة من البقر السمان يأكلهن قطيع ثعالب ) فيجيبه رجل1 : ( وأنا رأيت خمس سنابل خضر وثمانون يابسات ) ثم ينادي : ( أيها الصديق نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) وعلى غرارها هناك الكثير من النصوص ، أراد بها الكاتب أن يبحث عن البعد الدلالي بإكساء الحوار الصبغة القرآنية وفي بث محموم للرموز التي تشكل ـ علاقة تعاقدية ـ مع المتلقي نحو ( ستمائة من البقر يأكلهن قطيع ثعالب ، وخمس سنابل خضر وثمانون يابسات ) مع إن الكاتب ترك مساحة التأويل مفتوحة للقارئ ، كما ربط معاجز الأنبياء بقدرات الإمام ، إذ إنه ـ أي الإمام ـ يؤول الأحاديث كما يوسف (ع) ، ويشفي المرضى كما عيسى (ع) ، ويبطل السحر كما موسى (ع) ، والسير الشريفة تثبت ذلك . ومن الملاحظ أن الزمن في النص وإن كان يبدأ بالتنبؤ ، ويستمر حتى الخلود ، حيث تستمر دائريته دون انقطاع إلا أن في ذات التسلسل في المقامات ليس هناك زمن متوالي ، يأتي حسب البناء التقليدي بل إن تلك المقامات التي صاغها الكاتب هي إضاءات في حياة الإمام (ع) ، أراد من خلالها بث جمل من الأفكار ، ولذلك ترى الزمن يتحرك مرة في تاريخ ما قبل الإمام ، ومرة يعود إليه ، وأخرى زمن معاصر ، ثم في الداخل ( الزمن النفسي ) وهكذا فانه ـ أي الزمن ـ وإن كان دائرياً كما ذكرنا إلا إنه ( زئبقي ) إذا جاز لنا التعبير لانه يتحرك بسرعة ، يتقدم ويتأخر وفق مقتضى الحال ، كما سنلاحظه في المقام الأخير .خامساً / ( أرض الولاء ولحظة اللقاء ) بعد أن يمر الكاتب بأطياف رمزية متشابكة لسيرة الإمام (ع) يصل بنا إلى اللحظة السرمدية في ( مقام الخلود ) ، حيث يصور لنا صورة لقاء المنكوبين بإمامهم بعد فراق دام أكثر من ( ستة عشر سنة ) من سجن لآخر ، إذ تتعالى الأصوات وتخفق القلوب وهي تنظر يومها الموعود ، فيتبادر إلى الذهن في البداية ( حدث جسر بغداد ) وجثمان الإمام (ع) ،إلا انه يفاجئ كما فوجئ في المقامات الأخرى ، بأنه لا يعتمد على ( الحدث التاريخي ) كسياق للنص بل يعتمد عليه لبناء الأفكار وكمرجعية ليس إلا ، إذ انه يبحث في ( الصدمة المرجعية ) كما كان ديدنه في النصوص السابقة ، ويحاول أن يقلق المتلقي ، ويجعله في حيرة ، لا أن يكون مستلماً فحسب بل يحلل الأحداث بكل تمفصلاتها لكي يصل القارئ إلى قراءات متعددة ، إذ الكل ينتظر على جسر بغداد في يوم الجمعة ، لاحظ دلالة هذا اليوم المرجعية . ثم تفاجئ بأننا ننتظر عند ( مسجد الكوفة ) كما جاء على لسان الكوفي : ( سبحان الله .. أنظر أليس هذا مسجد الكوفة ؟ ونحن ننتظر عنده ) ثم في باب القبلة في النجف الأشرف على حد قول النجفي : ( عند باب القبلة في النجف ) . هذا التداخل في ( الزمكانية ) المقصودة مع الاحتفاظ بالفكرة الأصلية وهي ( اليوم الموعود ) ، يجعلنا نخلص إلى محصلة مفادها ( إن كل الأحداث تبحر في بحر زاخر يوصل إلى ميناء الخلود من جهة ، وإلى المشترك الذي على أساسه تسير تلك الأرواح الطاهرة مع أمواج الأحداث ) ، والتي عبر عنها القرآن الكريم ( منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) .النص كرنفال روحي يستلهم منه الكاتب زاده في مسلكه القادم حيث الوحدوية والظلمة ونقص المتاع ، نأمل أن يرفد مكتبتنا المسرحية الإسلامية المتواضعة جداً بكثير من هذه العطاءات .

ارسال التعليق