أمستردام وتتويج سقوط الهسبرة الصهيونية
ما حدث في أمستردام من قيام مشجعي أحد فِرق كرة القدم بتأديب الصهاينة هناك يتخطى نطاق كرة القدم أو الشغب الجماهيري أو الاحتجاجات المضادة للسلوك “الإسرائيلي” المستفز والمجرم، بل يعد تتويجاً لحالة شعبية رافضة وغاضبة وتحولات جذرية في الرأي العام الغربي، وجدت شرارة وفرصة للتعبير المباشر عن نفسها.
فقد شكلت هذه الركلات التأديبية للصهاينة الذين أنزلوا الأعلام الفلسطينية ورددوا الهتافات المعادية للعرب والفلسطينيين نهاية لسيطرة الخطاب الصهيوني وسرديته الكاذبة في الشارع الأوروبي والأمريكي، وأعلنت عن حالة الغلبة للخطاب الإنساني المناهض للصهيونية والمتعاطف مع الحق الفلسطيني، وهو ما وصلت رسالته لحكومة العدو الصهيوني، والتي أرسلت ما يشبه نداءات الاستغاثة، فاجتمع مجلس الأمن القومي الصهيوني ليطالب بإجلاء الصهاينة والتوصية بعدم حضور الجماهير للقاءات رياضية قادمة في أوروبا.
وهنا لا يمكن تناول هذا الحدث بشكل منعزل عن السياق الذي شهد تحولات كبرى منذ فترة طويلة ولكنها أعلنت عن نفسها بعد “طوفان الأقصى”، كما لا يمكن تناوله دون استخلاص الدلالات المهمة والتي تعد دلالات إستراتيجية تصب في صالح القضية وليس مجرد دلالات سياسية يمكن ترميمها أو تغييرها بتغيير مسبباتها المباشرة.
أولاً السياقات المصاحبة للحدث:
1- جاء الحدث في سياقات مباشرة وقريبة له، تمثلت في احتجاجات فرنسية على استضافة الاتحاد الفرنسي لكرة القدم لمنتخب “إسرائيل”، حيث اقتحم نحو 40 متظاهراً من جمعية “أوقفوا الإبادة الجماعية” قاعة بمدخل مقر الاتحاد، وبثت وسائل إعلامية صوراً للمتظاهرين وهم يُنشدون أغنية للمقاومة الفرنسية من الحرب العالمية الثانية، وحمل النشطاء لافتات كُتب عليها على وجه الخصوص “لا لمباراة فرنسا وإسرائيل” أو “دوري أبطال الإبادة الجماعية”، مطالبين الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بحظر “إسرائيل”.
وبالتالي فإن ممارسات الجمهور الصهيوني ورفضه الوقوف دقيقة للحداد على ضحايا فيضانات إسبانيا بسبب مواقف إسبانيا المتعاطفة مع فلسطين، والسلوك الهمجي بإنزال الأعلام الفلسطينية عن شرفات ونوافذ منازل عرب ومؤيدين لفلسطين، يضاعف من حجم الغضب الأوروبي بشكل عام على الكيان، ويسقط البقية الباقية من سردية مظلوميته والعدالة المزعومة لقضيته، والتي سادت الغرب لعقود طويلة، ويثبت عدالة القضية الفلسطينية وشرعية المقاومة،
كما يثبت أن احتضان أوروبا للكيان والموافقة على ضم فرقه الرياضية لأوروبا بعد استحالة استيعابها في آسيا، هو عبء على أوروبا ووصمة عار لها، وهو ما يتخطى نطاق الرياضة لجميع النطاقات الأخرى.
2- جاء الحدث في سياق طويل وشامل لتحول الرأي العام الغربي في أوروبا والولايات المتحدة نفسها لصالح مناصرة القضية الفلسطينية، وخاصة في جيل الشباب، والذي لم يعد يعتد بفزاعات معاداة السامية والابتزاز الصهيوني بهذه اللافتة، حيث شهدت الذكرى الأولى لطوفان الأقصى أكبر وأوسع التجمعات المطالبة بوقف حرب الإبادة والتي رفعت الشعارات المناصرة لفلسطين ولبنان، بل وحمل بعضها الأعلام الإيرانية، بداية من نيوزيلندا ومروراً بأوروبا في روما وإسبانيا وفرنسا، ووصولاً لجنوب أفريقيا.
وهو امتداد للتظاهرات التي اندلعت منذ أكثر من عام مع بداية حرب الإبادة، والتي شهدت حراكاً جامعياً غير مسبوق في الولايات المتحدة، وهو ما أفادت استطلاعات الرأي بأنه تغير جذري غير مسبوق في التعاطف مع الفلسطينيين على حساب التعاطف مع الصهاينة وخاصة في جيل “Z” أو ما يعرف بجيل الألفية بسبب تنوع مصادر الإعلام بعيداً عن الإعلام الصهيوني المسيطر على الغرب ودور وسائل التواصل الاجتماعي في كشف الجانب الآخر من الصورة، وبسبب تنوعات المجتمع الغربي والأمريكي والالتفات إلى قضايا العدالة.
3- لا يمكن الاستهانة بدور الشباب العربي في عرض القضية وكذلك خطاب المقا.ومة الإنساني الشامل ولا يمكن تجاهل أكثر من خطاب وجهه السيد القائد الإمام الخامنئي لشباب الجامعات الأوروبية وأميركا الشمالية منذ العام 2015، وبعد اندلاع طوفان الأقصى حيث وجه خطاباً خاصاً لشباب الجامعات الأمريكية ووصفهم بأنهم وقفوا في الجانب الصحيح من التاريخ، حيث واجهت هذه السرديات المقاوِمة سردية العدو التي حاول تسييدها طيلة العقود الماضية.
ثانياً: الدلالات المباشرة:
أولاً: أثبت الشعب الصهيوني أنه مثل حكومته مجرم ومناصر للإبادة ويريد إلغاء أي حق فلسطيني حتى على مستوى العلم الفلسطيني، وهو ما يكشف زيف دعاوى التطبيع والفصل الكاذب بين الشعب والحكومة الصهيونية، حيث إن جميعهم جنود احتياط في جيش الحرب وليس بينهم “مدنيون”.
ثانياً: اثبت الشباب العربي والمسلم انه غيور وأنه بانتظار أي فرصة متاحة للتعبير عن غضبه والمشاركة في تأديب الصهاينة، كما أثبت انه شعب حضاري حيث لم يتعمد قتل الصهاينة، بل اكتفى بتأديبهم وانتزاع اعترافهم بحرية فلسطين.
ثالثاً: كرست الحادثة نموذجاً قابلاً للتكرار، وهو ما أرعب الصهاينة فأصدر مجلس أمنهم القومي على إثر ذلك تحذيرات اقضي بعدم حضور الجماهير في أوروبا المباريات القادمة.
والخلاصة، أننا أمام عزلة للكيان المجرم وأمام تغير إستراتيجي كبير في القاعدة العالمية المناصرة للمقاومة وللحق الفلسطيني، وقد فقد الكيان أحد الأعمدة السياسية والإستراتيجية التي استند عليها وهي “الهسبرة” أو الدبلوماسية الدعائية والأكاذيب الموجهة للرأي العام المحرك للحكومات المتعاونة معه،
وبالتالي يشكل هذا التحول ضغوطاً على حكومات الغرب ودعمها السياسي بل والاقتصادي والتسليحي للكيان، كما اكتسبت المقاومة زخماً وأنصاراً في ملعب لم يكن يوماً لها بسبب سيطرة أميركا والصهاينة عليه. د. ايهاب شوقي ـ مصر
ارسال التعليق