الإسلام السياسي بات عبئا ثقيلا ومجتمعاتنا بحاجة إلى نقلة حضارية
صلا شك أن المجتمع العراقي اليوم، يحتاج إلى دراسات المخلصين من أبنائه، وإلى اجتهاداتهم الحثيثة نحو تحديد مشكلاته الحقيقية رغبة في وضع الحلول المثلى لتلك المشكلات، خاصة فيما يتعلق بوضع المواطن العراقي رجلاً كان أو امرأة، طفلاً صغيراً كان أو شاباً يافعاً، فما يتعرض له المواطن العراقي اليوم يدعو بقوة إلى ضرورة التفتيش في شرائح العراق والعراقيين بحثاً عن السمة المشتركة التي تجمعهم تحت لواء الوطنية الخالصة.. وهذا هو بالتحديد ما يحاول فعله الأكاديمي العراقي المغترب في هولندا الدكتور "حميد الهاشمي" أستاذ علم الاجتماع والأنثربولوجيا، والباحث في الشئون العراقية فكراً وسياسة ومجتمعاً، والذي حظيت دراساته على اهتمام واسع من خلال عمله كأستاذ في الجامعة العالمية بلندن، وجامعة أوروبا بمدينة روتردام الهولندية، وكذلك في جامعات عربية منها جامعة 7 أبريل بالزاوية في ليبيا، وتأتي أهمية دراساته في كونها تنصب حول علم اجتماع الأقليات والهجرة والاندماج الاجتماعي، لذا فآراؤه محل أهمية بالغة بالنسبة لواقع المجتمع العراقي، ولطبيعة التغيرات الحادثة بين شرائحه البشرية، علماً أن دراساته المتميزة يأتي في مقدمتها مؤلفات منها " العراقيون في هولندا: نحو صياغة إطار نظري لدراسة الاندماج الاجتماعي للمهاجرين "، و "الدكتور علي الوردي ودراسة المجتمعين العراقي والعربي"، و "تكيف الغجر: دراسة اجتماعية لجماعات الكاولية في العراق"، إلى غير ذلك من المؤلفات والدراسات المهتمة بواقع عراقي متغير ومضطرب، "العالم" التقت الدكتور "الهاشمي" وأجرت معه هذا الحوار ..
* من واقع خبراتك الاجتماعية.. كيف ترسم بورتريه سياسياً للقوى المتصارعة على الحكم في العراق؟
ـ إن اكبر فراغ يعانيه العراق سياسيا الآن هو غياب تيار وطني حقيقي بعيد عن الطائفية فضلا عن وجود شخصية وطنية وأكرر وطنية ليست بولاءات طائفية أو إثنية، لا تعمل لمصالح حزبية أو شخصية بحتة، تستطيع أن تجمع حولها الشخصيات والقوى الوطنية. إن حال القوى السياسية الآن هو عملية صراع على مصالح حزبية وشخصية تحت لافتة الطائفية والعرقية، ولم ترتق إلى الوطنية. على أن العامل الخارجي يساهم بشكل فاعل في تغذية هذا المسار وديمومته لمصالح تلك القوى إضعافا لعراق موحد بوجه جديد.
* في رأيك ما الحلول العملية لإنهاء الوضع الطائفي؟ وكيف تنظر لوضع الأقليات على مستوى العراق؟
ـ استقلالية القضاء، وكف دول الجوار عن التدخل في الشأن العراقي، وإن كان ولا بد من مد جسور تواصل فلتكن مع جميع الأطراف وليس الاكتفاء باستمالة طرف وتقويته على حساب الآخر. وتعديل وتحييد المناهج الدراسية عن الخلافات المذهبية، وضغط على الجهات التي تصدر فتاوي تكفير تثير الفتنة وتوسع شقة الخلاف، والإعلام الذي يروج للتكفير والقتل على الهوية. وهذا ينبغي أن يصل إلى مستوى إيجاد اتفاقية أو عهد دولي يقاضي حتى الدول التي تصدر منها فتاوى القتل دون حسيب أو رقيب، مثلما صدرت معاهدات ومواثيق دولية تجرم العبودية والاتجار بالبشر واستغلال الأطفال وغير ذلك. لماذا نجرم الاتجار بالبشر ولا نجرم اهدار دمهم؟؟ البشرية بحاجة إلى نقلة حضارية أكبر على مستوى حفظ الدماء البريئة تساوي التقدم التكنولوجي الحاصل.
* من من شرائح المجتمع العراقي الآن أقل قابلية للاندماج مع المجتمع العراقي؟ وما السبب في رأيك؟
ـ إن أكثر الجماعات الاجتماعية تقاطعا مع ثقافة المجتمع الأكبر أو محيطها الاجتماعي هي الأكثر عزلة. بمعنى كلما اتسعت مساحة وحِدّة التقاطع بالعادات والتقاليد والممارسات الثقافية، كلما زادت عزلتهم ومحاربتهم فيه. وعلى هذا الأساس تجد أن أقلية الغجر بتسميتهم المحليتين الكاولية وفي المناطق العربية) و(القرج) في المناطق الكوردية، هم الأكثر عزلة، ويعانون بشدة خاصة الكاولية. لقد لاقوا عقابا جماعيا من قبل المليشيات الدينية المسلحة، وتعرض بعضهم للتهجير، وخسروا مصادر دخلهم. وللأسف نجد رد الفعل الرسمي غير مسؤول ولا واعِ وهو يخل بالمسؤولية الوطنية التي ينبغي أن تكون مظلة للجميع. أيضا يعاني المسيحيون ولكن بدرجة أقل، رغم المقبولية والصورة الإيجابية التي يحملها لهم باقي العراقيين، لكن كثرة استهدافهم من قبل الجماعات التكفيرية، جعلهم يشعرون بتهديد مستمر وهو ما يجعلهم يبحثون عن جيوب آمنة منها مناطق تركز ديموغرافي لهم مثل سهل نينوى شمال العراق أو التفكير المستمر بالهجرة إلى الخارج وهو ما يقلل من اندماجهم.
* هل لا يزال المجتمع العراقي في رأيك مجتمعاً طارداً لطاقته البشرية أم أنه بدأ يأخذ منحى في اتجاه حضانة وطنية للعراقيين في المهجر؟
ـ لعلك تقصد بذلك هجرة العقول أو الكفاءات، وهنا أرى أن ثلاثة أمور رئيسة تكون سببا طاردا لها، وهي: التهديد الأمني، والاقتصادية، والحرية الفكرية. المؤشرات الآن تدل على أن الجانب الأمني قد بدأ يستقر إلى حد ما مع قلة التهديدات التي تستهدفهم. والجانب الاقتصادي قد تغير ايجابيا بنسبة تفوق مرحلة ما قبل التغيير بشكل لا يمكن مقارنته بحيث أصبح راتب الأستاذ الجامعي والطبيب يقارب مثيله في دول الخليج، مع إقرارنا بأن هناك متطلبات أخرى مازال يعاني منها كثيرا تتعلق بالبنية التحتية وأولها الكهرباء. إلى هذا الوقت نلمس عودة أعداد كبيرة من الأكاديميين والأطباء، وقد صدرت إحصائيات رسمية بذلك، وهذا شيء مطمئن. ولكن مازلنا نحتاج الكثير من العوامل التي تجعل العراق بلدا مستقرا يوفر شروط الحياة والعمل الايجابية لأبنائه.
* وأنت باحث اجتماعي.. كيف يستطيع العراقيون تكوين خطاب مجتمعي من شأنه إعلاء قيمة التعايش المشترك؟ وبأية آلية تراها؟
ـ إن أي تغيير يعقبه مرحلة انتقالية، تتطلب التمرس عبر نقل تجارب الآخرين والاستفادة منها أو التجريب، والاجتهادات. وللأسف فإن مجتمعاتنا تلجأ إلى الاجتهادات والتجريب دون الاستفادة من تجارب غيرها خاصة تلك التي عانت من حقب الدكتاتورية أو الحروب الأهلية. شخصيا أرى أن الفترة القريبة ستشهد تحولات في الوعي النخبوي والشعبي ورغبة في تغيير الطبقة السياسية التي تحكمت بهم خلال الفترة الماضية. إن النخب المثقفة ووسائل الإعلام مطالبة بخلق مبادرات تهدف إلى تعرية الخطابات الفئوية وتشكيل خطاب وطني يلبي رغبة المواطن البسيط. فما يحصل هو تصارع بين أحزاب وأشخاص لا يمثلون حتى طوائفهم فضلا عن المصلحة الوطنية.
* هل ترى في الإسلام السياسي ـ إن صح التعبير ـ معوقاً من معوقات التنمية في إطار الوضع العراقي الآن؟
ـ نعم للأسف بات الإسلام السياسي عبئا ثقيلا في العراق، نتيجة التجربة المريرة في الحكم والتنازع وتكريس المحاصصة الطائفية جراء تجربة المرحلة الماضية التي قاربت عقد من الزمان. وهو بالتالي يشكل فعلا عبئا على تنمية البلد ولحمته وتقدمه. ونحن هنا لسنا ضد الدين بقدر ما نحن ضد زج الدين في الحياة السياسية التي تناقض قيمه ومثله. مبدئيا إن الحكم باسم الإسلام يعني بالضرورة الانقسام، فإن اتفقنا على القرآن، فإننا نختلف حول تفسيره، وإن اتفقنا على تفسير واحد فسنختلف على التطبيق، وإن اتفقنا على التطبيق فسنختلف على من يطبق. من هنا تنبع الإشكالية، هذا ناهيك عن التجربة الفاشلة التي مر بها البلد والتي تعطي ذات الانطباع.
* كيف يفيد العراق من متغيرات الربيع العربي على مستوى التفاعل الاجتماعي والحضاري؟
ـ إن ما أحدثه الربيع العربي قد عرى البنى السياسية التي حكمت العالم العربي للعقود السابقة، وكشف مدى بشاعة الأنظمة الديكتاتورية في ممانعة التغيير إلى درجة تتطلب أحيانا تدخلا خارجيا. وهذا ما غير صورة التغيير في العراق بغض النظر عن الطبقة السياسية الموجودة فيه الآن. بمعنى أدق إن الربيع العربي خلق نوعا من التفهم إلى التغيير في العراق، وقرب المسافة إلى حد كبير بين القوى السياسية الجديدة والشعوب العربية مع العراق.
* وأنت تستوفي العديد من شروط البحث في الهوية العراقية ... هل هذه الهوية في حالة انشطار أم في حالة اكتشاف هويات فرعية؟
ـ هي انشطار وتشظي في الواقع، ساعدت عليه عوامل منها، إرث المرحلة الدكتاتورية السابقة التي همشت الهويات الفرعية بل كبتت غالبية الهويات الفرعية وغيبتها، ولم تنتهج نهجا علميا للاندماج الاجتماعي والوطني، ما أفرز هذه الحالة من التشظي على حساب الهوية الوطنية. ان الحقوق الثقافية والانتماء والولاء للهويات الفرعية هي حق طبيعي، لكن على ألا يأتي على حساب الانتماء والهوية الوطنية.
* كيف تنظر لتوجهات الشباب العراقي في ظل حالة اللا سلم واللا حرب القائمة في العراق الآن؟
ـ الشباب العراقي يعاني مشاكل متعددة تتمثل في شبح الإرهاب وتداعياته، والبطالة، والتضييق والضغوط التي تمارسها الأحزاب والحركات الدينية وفق اجتهادات المسلحين أو ذوي السطوة في الشارع. أضف إلى ذلك نقص الخدمات وتردي الواقع البيئي، وربما الأهم من ذلك ضبابية الموقف السياسي، الذي يتمثل بصراع أطراف العملية السياسية واستخدامهم الشعارات الدينية والمذهبية كسلاح لللتجييش والتحشيد.
* في رأيك هل سيدفع العراقيون مستقبلاً ثمن إهمال الطفل العراقي وما يتعرض له من عسكرة وتربية انتحارية؟
ـ الأطفال هم مستقبل كل شعب، والاهتمام بهم هو اهتمام بالمستقبل وعملية تخطيط له بصورة أو أخرى. وأطفال العراق هم جزء من الحالة العراقية العامة بإشكالاتها. لكن لا يجب أن نتصور الصورة سوداوية ومأساوية إلى هذه الدرجة. بالنسبة للعسكرة فهي تكاد تكون انتهت مع عملية عسكرة المجتمع في المرحلة السابقة، وإن توفر السلاح في بيوت معظم المواطنين مثلا لا يصنف ضمن العسكرة، وإن تعلم الأطفال استخدامه أو وقع بمتناول أيديهم. أما التربية الانتحارية، فلعلك تشير إلى التجنيد في العمليات الإرهابية، فهذا أيضا لا يمثل ظاهرة عامة تعمم على أطفال العراق، إنما يقتصر حجمها وخطرها على قدر ما اطلعنا عليه من نشاطات إرهابية تم توظيف الأطفال فيها. وهي في مناطق ضيقة جدا كان للمجاميع الإرهابية وجود فيها، والآن انحسر بشكل كبير أو يكاد يكون غائبا. وأنا اتفق بالتأكيد مع الرأى القائل بأن التنشئة الأيديولوجية الضيقة تعتبر ذات خطر كبير على الطفل وتكبل تفكيره وتعيق نموه العقلي والفكري بشكل صحيح. فالتنشئة على أساس طائفي مرضي أو تكفيري، سوف تخلق إنسانا مريضا، ويحمل صورا نمطية وقوالب وأحكام جاهزة معظمها تقوم على الكراهية للآخر المختلف.
* في الختام، العدالة الاجتماعية في العراق قبل الغزو أفضل أم بعده؟ وماذا عن مستقبل هذه العدالة؟
إن من أهم معايير العدالة الاجتماعية ومؤشراتها هي: تساوي الفرص في مجالات العمل والدخل وتقاسم الثروة والتقاضي والتملك والمشاركة في الحياة السياسية سواء بالتصويت أو التمثيل وغيرها. وهذه كانت غائبة إلى حد كبير، فلا يخفى عن الجميع أن النظام السابق، كان نظام حزب واحد وشخص واحد وكان يمارس إقصاءً لأي شخص غير موال له. كذلك كان يحتكر الثروة ويسخرها لأغراض شخص الحاكم وحاشيته والموالين له، ويمارس حرمانا وعزلا للمناوئين له أو من يشك بولائه. كما إن حق التقاضي أمام القانون يغيب تماما في حالة أن يكون الخصم شخص الحاكم أو حاشيته أو قيادات حزبه أو حتى أعضاء الحزب أحيانا. أما الآن فان الأمر لا أقول اختلف تماما إنما في جوانب منه على أقل تقدير. ولكن تبقى إشكالات وهي من سمات المرحلة الانتقالية، تتمثل في تفشي المحسوبية واستحواذ بعض الأحزاب على قنوات التوظيف، وإفلات العديد من المتهمين بالفساد الإداري من العقوبة وما إلى ذلك.
ارسال التعليق